أما حديث ابن عباس فقد ورد من حديث أبي سعيد وقصته عند أبي سعيد أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج يصلي بالناس العيد، وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم إلى الجبانة -إلى الصحراء- فيصلي بالناس هناك صلاة العيد، وكان إذا خرج الناس انتظر قليلاً حتى ترتفع الشمس ما يقارب قيد رمح، ثم لبس لباسه صلى الله عليه وسلم، لباس الجمال، والعظمة، والتواضع.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
فكان يمضي فينتظره الناس، فإذا أطل عليهم أطل بمقدمه المبارك الباهي الذي يملأ العين جلالة، والقلب مهابة، فيتكلم مع الناس بما آتاه الله، وحيٌ من السماء يفيض عليهم بالنور والخير والبركة، فلما انتهى من كلامه للناس إذا بالنساء في طرف المصلى، هن لم يصلين مع الرجال بل كُنَّ في جهة واحدة من المصلى، وهذا فيه درس على أن الاختلاط ليس بوارد، لا في الأماكن التعبدية، ولا في الفصول الدراسية أو الاجتماعات العامة؛ لأن المرأة لها مكانٌ والرجل له مكان.
وفيه درسٌ أيضاً أن على المرأة المسلمة أن تحضر مجالس الخير، واجتماعات البر، وأن تستمع إلى الكلمة النافعة، وأن تستمع إلى الدروس الإسلامية والمحاضرات القيمة، فإن هذا من أعظم الأمور، لكن شريطة أن تغض بصرها، وتتقي ربها، وتحفظ زوجها في غيابه، وفي حديث أم عطية عند البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحيض والعواتق وذوات الخدور أن يخرجن يوم العيد} فأما الحائض تعتزل المصلى، وتحضر دعاء المسلمين، وتستمع إلى الموعظة والخطبة، ففيه فائدة تدل على أن الحائض لا تدخل المسجد، ولا المصلى الذي يصلي فيه الناس، لكن بإمكانها أن تحضر في مكان محجوز من وراء حجاب فتسمع الكلمة الطيبة التي تصل إلى قلبها.
ثم اعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} والحديث صحيح، إي للصلاة، وهذا الحديث من رواية ابن عمر، وعند مسلم: {فقال له ابنه بلال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً يقول: والله لنمنعهن؛ لأنهن يتخذن المسجد تحريشاً وفساداً -فقال ابن عمر: {أكلمك عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وتكلمني عن رأيك وتعارضه، والله لا أكلمك أبداً حتى الموت} انظر إلى عظمة السنة في قلب ابن عمر يقول لابنه: والله لا أكلمك أبداً حتى الموت، كيف تعارض أمر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: فما كلمه أبداً، فلما حضرته سكرات الموت اقترب ابنه يبكي ويقول: سامحني، كلمني ولو كلمة واحدة، فمات ولم يكلمه، وهذا في اعتراضٍ بسيط، فكيف بمن يرضى بأفعال المحاربين للسنة والشريعة، والمحاربين لِقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم!!
ونعود للحديث ولكن جاء عند أبي داود: {أن صلاة المرأة في دارها خيرٌ من صلاتها في مسجدها} وتقول عائشة كما في صحيح البخاري من حديث عطاء: [[لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعلت النساء بعده لمنعهن كما مُنعت نساء بني إسرائيل، قال عطاء: أمنعت نساء بني إسرائيل؟ قالت: نعم]] وعائشة تنظر في الحرم في وقتها، تنظر إلى الهيئة، وبعض الاختلاط، وبعض الأمور، فتقول: لو رأى صلى الله عليه وسلم هذا المشهد لمنع النساء، فكيف لو رأت عائشة المنظر اليوم! وكيف لو رأت التبرج والاختلاط! وكيف لو رأت ضعف الإيمان وقلته، وقلة العلم بالسنة والشريعة! نسأل الله العافية والسلامة.
فخرج صلى الله عليه وسلم وتكلم للناس، فلما انتهى التفت إلى بلال بن رباح مؤذنه داعي السماء لأهل الأرض، الذي يقول فيه الشاعر وهو يتكلم عن المدينة:
فاستفاقت على صباحٍ جديدٍ ملء آذانها أذان بلال
بلال المتوضئ، الذي ما توضأ إلا صلى ركعتين، قصره كالربابة البيضاء في الجنة، لا نسب إلا التقوى، ولا سبب إلا لا إله إلا الله، ولا أسرة إلا لا حول ولا قوة إلا بالله وزاده في الآخرة، فأخذه صلى الله عليه وسلم ليذهب به إلى النساء، فأتى إليهن متكئاً على بلال، وهذا فيه دلالة على يسره صلى الله عليه وسلم وتواضعه.
فلما دلف بطلعته البهية على النساء وكلهن متحجبات، فتكلم معهن وقال: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، ثم توقف فقامت امرأة داهية من الدواهي ذكية وقالت: ما بالنا نحن أكثر أهل النار؟}.
أي: ما هو السبب والعلة؟
وهنا فائدة وهي: أن الطالب له أن يناقش، وعلى المرأة المسلمة إذا لم تفهم قضية فيجب عليها أن تبعث للعالم فتسأله وتستفتيه.
تقول: ما بالنا أكثر أهل النار؟ وما هو السر؟ قال عليه الصلاة والسلام وهذا في حديث أبي سعيد: {لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، لو أحسن إلى إحداكن الدهر ثم رأت منه شيئاً؛ قالت: ما رأيت منك خيراً قط}.
فسكتن وأتين يتصدقن، فكن يلقين بما معهن من سخاب، وذهب، وحلي، وأخذ بلال يعرض ثوبه لأنها لبيت مال المسلمين، ويقول: [[فداكن أبي وأمي! فداكن أبي وأمي!]] فأخذ التبرعات.
وهنا فائدة وهي: أن المرأة المسلمة لابد أن تشارك بكلمتها ومالها وحليها، وأنها لا يبقى لها إلا ما قدمت عند الله، وأن الحلي والكنز هو الأدب والزهد والعفاف
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال يجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
وفي هذا الحديث قضايا سوف أتعرض لها.
وهنا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري {ما رأيت ناقصات عقلٍ ودين} وللمرأة المسلمة أن تتساءل: ما بالنا ننقص في عقولنا وفي ديننا؟
فنقول: قد فسر ذلك صلى الله عليه وسلم: بأن المرأة تحيض فتمكث أياماً لا تصوم ولا تصلي، وأما عقلها فشهادة الاثنتين من النساء بشهادة رجلٍ واحد، وليس عليهن ذنوبٌ في نقص العقل، لكن ينتبه لهذا، وإلا فإن فيهن رشيدات، وشديدات، وعالمات، ومتقيات، لهن مكانة في الجنة، وموقف عند الله محمود {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
منا الفواطم ربات العلا ولنا كل الزيانب هم أهل وعمات
والله لو أنصف التاريخ أمتنا لسجل المدح عذباً وهو سهران
ثم الرسول عليه الصلاة والسلام عاش مع المرأة أباً، فقد كان له بنات، وعاش مع المرأة أخاً فله أخوات، وعاش مع المرأة زوجاً فله زوجات، ثم عاش قريباً فله عمات وخالات.
وسوف نعرف في هذا الدرس كيف كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الجميع، لأنه هو القدوة، وما أتاك من سواه ومن غير بضاعته فاعلم أن فيها غشاً إذا لم توافق سنته وشريعته عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].