يقول معاذ: {يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار} فهل علم أهل القصور أن المصير ليس بقصور في الدنيا، وأن الشرف والسمو، والغاية المنشودة ليست بالقصور؟ وهل علم أهل الأموال أن الغاية المحمودة والمطلوبة عند المسلم ليست المال؟ وهل علم أهل الأولاد أن الذي يطلبه المؤمن أعظم من الأولاد؟ وهل علم أهل المناصب أن هناك أجل من المناصب؟ إنه رضا الله والجنة.
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
صح في صحيح مسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {للمؤمن في الجنة خيمة مجوفة طولها في الجو -وقيل: عرضها- ستون ميلاً، في كل طرف من أطرافها أهلون وبنون للمؤمن، لا يرى بعضهم بعضاً} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن في الجنة سوقاً يأتيه المؤمنون؛ فتهب عليهم رياح الشمال، فتحثو في وجوههم المسك، فيعودون إلى أهلهم وقد ازدادوا جمالاً إلى جمالهم وحسناً إلى حسنهم}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الفرات والنيل وسيحون وجيحون أربعة أنهار من أنهار الجنة} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يوم الجمعة يزور المؤمنون فيه ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيجلس الأنبياء على منابر من نور، ويجلس الشهداء على كثبان من مسك، ثم يجلس الناس على مجالسهم، فينظر إليهم ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وينظرون إليه، فما أُوتوا نعيماً أعظم من ذاك النعيم} وهو يوم الزيادة، يدخل أهل الجنة الجنة، فيتلذذون ويتنعمون، لا يبولون، ولا يجوعون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، ولا يبصقون
بنو ثلاث وثلاثين سنه جرد مكحلون مرد حسنه
وجوههم من النعيم مسفرة لا ظلمة ترهقهم أو قترة
أهل الجنة إذا دخلوا الجنة انتهى عنهم الهم والحزن والغم والنصب قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
فيقول معاذ رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة، هل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك أن تأتي بمؤهلات، أو أن تتوظف وتخدم كذا سنة، وتأتي بعدد من المال، أو تذبح نفسك كما يفعل بنو إسرائيل، أو تجوع نفسك الأيام والليالي كما تفعل النصرانية، أو تطول أظفارك وشعورك كما تفعل البوذية، لا.
أتى بأمر بسيط يستطيع جمهور الناس أن يفعلوه، كله سهل وميسر على من يسره الله عليه.
لكن يقول صلى الله عليه وسلم لما سئل: {إنه ليسير على من يسره الله عليه} أما من عسره الله عليه فليس بيسير، وبعض أهل الصلاح وأهل الاستقامة يتعجب من كثير من الناس، لا يصلون في المساجد، ولا يقرءون القرآن، ويقولون: ماذا يكلفهم لو صلوا خمس صلوات في اليوم والليلة؟ ماذا يكلفهم لو قرءوا شيئاً من القرآن؟ ماذا يكلفهم لو صاموا شهراً في السنة؟ ماذا يكلفهم لو حجوا مرة في العمر؟ لكن القلوب بيد فاطر السماوات والأرض، والنفوس بيد الحي القيوم، يقول عز من قائل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
هذا الرجل مهتد مصل صائم منيب زاهد متورع إلى الله عز وجل، ويرزق ولداً فاجراً من الفجار، وفاسقاً من الفسقة، وفاسداً من المفسدين، ومارداً من المتمردين، فلماذا؟ حكمةٌ بالغة، وقدرةٌ نافذة من الحي القيوم.
يقول عز من قائل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] هذا يسكن في أحسن مسكن، ويأكل أحسن طعام، ويتمتع بالمطاعم الشهية والمراكب الهنيئة والمشارب الرضية، ولكن قلبه مغلق عن الهداية، لا يريد لا إله إلا الله، ولا يتلذذ بلا إله إلا الله، ولا يمضي إلى مسجد الله، ولا يعفر وجهه ساجداً لله.
وهذا رجلٌ آخر يعيش البرد كله، ويأخذ الجوع بحده، والظمأ والتعب والإعياء، وينام على الرصيف، وأحب كلام إليه كلام الله، وأحسن صوت إليه صوت المؤذن، وأحسن جملة تمر بأذنيه لا إله إلا الله، وجهه يلمع نوراً، وقلبه يتفتح للهداية، فما هو السبب؟ حكمة بالغة.
فالله عز وجل نظر إلى قلوب العباد، فرأى أن هذا القلب يستحق الهداية فمنحه الهداية، ونظر إلى ذاك القلب، فإذا هو مطموس عليه لا يستحق النور ولا الهداية، فأغلق الله عليه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:23 - 24].
ماذا قال أهل العلم في قوله عز من قائل: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] قالوا: يحول بين الإنسان والإيمان، يريد أن يؤمن، يريد أن يصلي، لكن الله علم فيه الخبث، فلا هداه ولا كفاه ولا وقاه ولا شفاه.
فالله الله يا أيتها الأمة المحمدية، يا أيتها الأمة المرضية! التي يريد الله أن تدخل الجنة أول الأمم، والتي بنى الله لها قصوراً في الجنة؛ فإن طريق الجنة هو هذا الحديث.
ثم قال له صلى الله عليه وسلم: {تعبد الله لا تشرك به شيئاً} هل هناك عسراً وصعوبة في عبادة الله، وعدم الإشراك به، أتعلمون إلهاً غير الله؟ هل تعلمون أكبر من الله؟ أو أعظم من الله أو أحق بالعبادة من الله؟!