سُجِنَ الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، وجلد بالأسواط على ماذا؟ على زهده وعبادته، على علمه بالحديث يوم حفظ ألف ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف ومسند ومقطوع وأثر وكلام تابعي على صيامه في النهار، وإعراضه عن الحياة الدنيا، وعلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعلى دعوته المشعة الفياضة، واستقامته في ذات الله، وتربيته لأجيال الأمة وتعليمهم العلم، ابتلي بلاء يرفع الله به منزلته، وجلد، ووضع في السجن، وأخرج فكان كالذهب الأحمر إذا أدخلته النار فعاد ذهباً خالصاً أحمراً {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] الدين ليس دعاوى:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
يدعي أحد الناس أنه يحب الله، فإذا سمع الأذان لا يتحرك إلى المسجد، فهذا منافق إن لم يكن له عذر شرعي، ويدعي أنه يحب الله ورسوله، وأنه يوالي الله ورسوله، ولكنه إذا أصيب بمرض تسخط وأنكر القضاء والقدر، وقال كلمات لا أصل لها، فأين الإيمان وأين الصدق؟! الإيمان معناه: أن تقوم إلى الماء البارد في صلاة الفجر، وهو أحب إليك من الجلوس مع الأخيار، في السمر، أو في مناجاة الأحبة، وفي الحديث: {إذا قام العبد المؤمن وتوضأ من الماء البارد -وهذا من الابتلاء في الطاعات- وترك فراشه الوثير ولحافه الدفيء، قال الله: يا ملائكتي! انظروا لعبدي، ترك فراشه الوفير، ولحافه الدفيء، وقام إلى الماء البارد يتوضأ منه، وقام يدعوني ويتملقني، أشهدكم أني غفرت له، وأدخلته الجنة}.
وعلامة الصدق أن تثبت في صفوف المؤمنين في الصلاة، وأن تقدم إليها بشوق وحرارة، لأن المنافق قد يصلي، ولكن ليس هناك حب، ولا إخلاص، ولا انقياد، يقول جل ذكره: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] يصلون، ولكن كسالى، ويذكرون الله، ويقرءون القرآن لكن ببرود، ليس هناك صدق ولا إخلاص ولا محبة ولا اندفاع فلم ينفعهم ذلك.
الإمام أحمد سجن لأنه يقول ربي الله، فرفع الله درجته، فأصبحنا نذكره في كل مجلس، وعلى كل منبر، وفي كل منتدى، وعلى رأس كل محفل، فانظر كيف رفع الله ذكره، وأما خصومه ومن عارضه فمحق الله ذكرهم، فلا يذكرون إلا قليلاً، مثل الوزير ابن الزيات الذي دعا عليه الإمام أحمد، فجلد وعذب وأدخل في الفرم وهو حي حتى قطع تقطيعاً، هذا ابن الزيات الوزير الذي اعترض على الإمام أحمد، فسلط الله عليه ظالماً مثله، فعذبه وابتلاه وقطعه.
وأحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة المبتدع الذي هو أحمد أهل البدعة، وأحمد بن حنبل أحمد أهل السنة، دعا عليه الإمام أحمد فأصيب بالفالوج، لأن الإمام أحمد قال: اللهم عذبه في جسده، لأنه السبب في الجلد والسجن والضغوط السياسية للإمام أحمد، فقال الإمام أحمد: اللهم عذبه في جسده، فشل نصف جسده، والنصف الآخر سليم، قالوا: كيف حالك يا بن أبي دؤاد؟ قال: أما نصف جسدي هذا، فو الله لو أن ذباباً وقع عليه لكأن القيامة قامت، وأما نصف جسدي هذا، فوالله لو قطع بالمناشير قطعة قطعة ما أحسست به، لماذا؟ لأنه عارض الحق، أما الإمام أحمد فبقي مذكوراً في كتب الحديث، فهو يذكر آلاف المرات.
أحد الصالحين دخل على ابن بقية، الوزيرالظالم، فضربه على وجهه بكفه فأجلسه، فقال الصالح العابد: اللهم إنه ضربني، اللهم فاقطع يده، فابتلاه الله بظالم فقطعت يده، ولذلك يقول ابن بقية:
ليس بعد اليمين لذة عيش يا حياتي بانت يميني فبيني
ذكره ابن كثير في ترجمته.