فـ أبو بكر من أكثر الناس إجلالاً للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا لازم الحب، وبعد عرض هذه النماذج، أذكر ماذا ينبغي، وما يجب علينا أن نفعله في هذا الباب، ومن أحسن ما ألف في ذلك الجانب، دلائل النبوة للعلامة البيهقي، وكتاب الشفاء للقاضي عياض، وسوف أذكر منه نماذج إن شاء الله، أما عمر رضي الله عنه فقد ورد عنه في السيرة وفي التراجم: أنه خرج يوم الجمعة رضي الله عنه وأرضاه يصلي بالناس فلبس بردته البيضاء، فلما مر بميزاب العباس بن عبد المطلب؛ وذاك الميزاب كان يقطر بماء فيه دم؛ لأن العباس ذبح دجاجاً فوق السطح فأخذ هذا الميزاب يقطر الدم والماء، فوقع على بردة عمر وهو يريد الصلاة، فاقتلع الميزاب بدرته رضي الله عنه، فأوقعه في الأرض، ثم عاد فغير ثيابه، فصلى بالناس فلما خرج العباس قال: من أزال الميزاب؟ فقال عمر: أنا أزلته، لماذا تؤذي الناس بهذا؟ قال العباس: والله الذي لا إله إلا هو ما وضعه في ذاك المكان إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر وهو واقف مع الصحابة وقال: والله لا يعيده إلا أنت، والله لا تعيده إلا بعد أن تصعد على ظهري، فجلس رضي الله عنه والناس وقوف بعد صلاة الجمعة فجلس عمر على الأرض كالمحتبي ثم قام على أكتافه العباس فرد الميزاب إلى مكانه؛ إجلالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي وضع ذلك الميزاب مكانه.
هذا وارد عن عمر رضي الله عنه، وهذا شيء بسيط في جانب التوقير والتقدير من الصحابة والتابعين للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اجلسوا -وهو في الشمس في الطريق- فجلس مكانه، فمر به صحابي فقال: مالك يا ابن رواحة؟ قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا، فما كان لي أن أخطو خطوة فجلست مكاني، فجلس في الطريق وفي الشمس امتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام} وهذا هو المطلوب منا، هذه العقيدة، وأي عقيدة وإيمان وإسلام ليس فيه هذا الامتثال ولا هذا التوقير، ولا هذا التقدير فليست بعقيدة وليس بمقبول أبداً.
والمذكور عن سعيد بن المسيب وهو الرجل الذي مر معنا رضي الله عنه وأرضاه أنه كان في مرض الموت، فلما حضر الموت، سأله سائل عن معنى حديث، فقال: اسندوني، فقالوا يشق عليك ذلك، فقال: والله لا يسأل عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع والله لا بد من إسنادي فأسندوه، ثم قال: أضجعوني فأضجعوه فتوفي رضي الله عنه.
كل ذلك احتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر حديثه وهو مضطجع، بل أسندوه توقيراً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن المبارك يمشي فسئل عن حديث، فقال: [[لا أجيب على الحديث؛ لأن من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديره وتعظيمه وتبجليه، ألا نجيب عن حديثه ونحن نمشي]] هذا كله في جانب الإجلال.
وأورد ابن تيمية في فتاويه لما تعرض لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة من إجلال التابعين والسلف الصالح للرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر لـ جعفر بن محمد الصادق من ذرية علي رضي الله عنه: أنه كان إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم تغير وجهه واحمر حتى يشق على أصحابه، فيقولون مالك؟ قال: أيذكر عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتغير.
كل ذلك إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، والإمام مالك من أكثر الناس توقيراً له صلى الله عليه وسلم وتقديراً، حتى أنه حلف وأقسم بالله لا يركب دابة في المدينة أبداً، يقول: مدينة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون، لا أركب دابة أبداً، وكان إذا قرب من المسجد يرفع حذاءه ويمشي حافياً، وكثير من العلماء إذا هبطوا في المدينة أو نزلوا المدينة، رفعوا الأحذية من أقدامهم ومشوا حفاة ومنهم بعض المحدثين: كـ ابن إدريس العراقي كان يبكي إذا نزل المدينة ويقول:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
كله من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المبارك رحمه الله: دخلت المدينة، فوجدت مالكاً مكثور عليه، قال: فأتيت فجلست في حلقته وهو يقرأ في الموطأ، قال: فتغير وجهه ثلاث عشرة مرة، يحمر ثم يعود ثم يحمر ثم يعود، فلما انتهى من درسه قلت: ما لك يا أبا عبد الله؟ قال: انظر لدغتني عقرب ثلاث عشرة مرة، ثم رفع ثوبه فرأيت اللدغة في رجله رضي الله عنه، قلت: مالك ما قطعت الحديث؟ قال: أقطع حديث حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل نفسي لا والله!! قال: ثم تفل في يده وقرأ الفاتحة ومسح رجله فكأن ما به شيء رضي عنه وأرضاه.
ويؤثر عن الإمام مالك أنه كان يرى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ليلة إلا ليلة واحدة؛ لكثرة توقير الإمام مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله له صلى الله عليه وسلم.
ومن حسنات معاوية بن أبي سفيان، وهو كما تعرفون خال المؤمنين، وكاتب وحي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لما حضرته الوفاة، قال: [[أيها الناس! ما عندي من العمل والله ما أعتد به عند الله، إلا شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا أنا مت فخذوا أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيء من شعره في ديواني -مكان الخليفة- واجعلوها في أنفي واجعلوها في عيني علَّ الله أن يرحمني بها، ففعلوا ذلك]].
فنسأل الله أن يرحمه بذلك وأن يرضى عنه، وهذه من حسناته العظيمة التي يعتد بها عند الله عز وجل.
وعمر رضي الله عنه كان في الحج يطوف، فلما انتهى من طوافه أتاه أعرابي فقال: يا أبا حفص! هل لي أن أسعى قبل أن أطوف؟ قال: لا.
طف ثم اسع، وكان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الأعرابي -وهو لا يعرف شيئاً يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]- قال: والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بمثل ما أجبتني، قال عمر: خررت من يديك قاتلك الله، تستفتني وقد أفتاك الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك في هذا الجانب قد يعذر الجاهل، لكن العالم، أو طالب العلم، أو من عنده شيء من فهم وإيمان فإنه لا يعذر أبداً، لمصادمة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع آراء غيره من الناس مهما بلغوا أبداً، فإنه لا ينبغي ولا يجوز، وليس بوارد أن تعارض بين رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بين قوله، وبين حكم أحد من الناس، مهما كان، ولذلك يقول العالم الأول المحدث:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان
وهذا من كلام ابن القيم.
وقال غيره:
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
فالعلم هو المأخوذ والمستفاد والمستنبط من كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يأتي في الفقرة الثانية، ولكن قدمته لقصة عمر ولا غرو أن يفعله الأعراب فإنهم فعلوا أعجب من ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم: {أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ماذا في الجنة؟ قال: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال: يا رسول الله! إني أحب النوق -الإبل- فهل يجعل الله لي نوقاً في الجنة؟ قال: نعم.
ما بذلت ناقة في سبيل الله إلا بسبعمائة ناقة في الجنة، فالتفت إلى الأنصار فقال: يا رسول الله! إن الأنصار يحبون زراعة النخل، أينبت الله لهم نخلاً وزراعة في الجنة؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: أي نعم.
قال: يا رسول! ماذا تخاف عليَّ؟ قال: أخاف عليك من فتنة المسيح الدجال، قال: وما هذا المسيح الدجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: رجل أعور يضلل الناس، يعطيهم طعاماً ويوكلهم، وله جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، قال: ما طعامه يا رسول الله؟ قال: طعامه الثريد؛ -الخبز باللحم- قال الأعرابي: والله لآكلن حتى أتضلع من طعامه، ثم لأكفرن به وأصدق بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والتفت إلى أصحابه من جرأة هذا الأعرابي} ولذلك كانوا مباشرة يردون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فيقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أتاه أعرابي فقال صلى الله عليه وسلم: {ماذا تقول في الصلاة بعد التحيات؟ قال: أقول اللهم اغفر لي وارحمني وأسأل الله الجنة وأستعيذ من النار، أما دندنتك ودندنة معاذ فما أحسنها}.
لأن معاذاً كان إماماً في ناحية من نواحي المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم إماماً في المدينة، فيقول: كثرة الدعاء الذي تأتي به أنت ومعاذ أنا لا أعرفه، ولا أعرف إلا هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: {ما تركت شيئاً من الخير} أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام.
فهؤلاء يعذرون في جانب الجهل، ولذلك كما قال صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود: {من بدا جفا} أي: من ظهر ومن لم يساكن الناس ويخالط الأخيار والأبرار ويزورهم أتاه الجفاء، ولذلك في كتاب الإمام البخاري كتاب الأدب المفرد وسنده حسن يقول صلى الله عليه وسلم: {يا ثوبان! لا تسكن الكفور، فساكن الكفور كساكن القبور} قال الإمام أحمد: "الكفور: القرى والبوادي".
ولذلك تجدهم من أقل الناس علماً، وفهماً، واستنباطاً، فالمقصود: أن من سكن في قرية فعليه أن يوجههم، وأن يعلمهم، وأن يرشدهم فإنهم من أقل الناس علماً، ومن أقلهم هداية ونوراً وبصيرةً، بخلاف أهل المدن، فإن فيهم الأخيار والأبرار وطلبة العلم، والدعاة المؤمنين، فنسأل الله أن يحشرنا في زمرة الصالحين.