قال ابن القيم في زاد المعاد وهو يتحدث عن بيع جمل جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبوه أتى إلى يوم أحد فلبس أكفانه, ومعنى لبس الأكفان: أنها ساعة الخطر والصفر, فلا عودة إلى الحياة، ولا محاب إلا محبة الله، لا زوجة ولا ولداً ولا داراً ولا مالاً:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأُطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أتى إلى المعركة فأخذ غمد سيفه وكسره على ركبته -وهذا في أحد وحديثه في الصحيح- وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] فقتل، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: {ابك أو لا تبك والذي نفسي بيده, ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته} وفي حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يا جابر! والذي نفسي بيده, لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمن يا عبدي , قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فأتمنى أن ترضى عني, قال: فإني قد رضيت عنك، فأحل الله عليه رضوانه وعلى إخوانه من الشهداء, وجعل أرواحهم في حواصل طير ترد الجنة فتأكل من ثمارها، وتشرب من مائها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها} وأنزل الله قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
جابر أتى بجمله يضربه في غزوة لأن الجمل تحير عليه, فأتى عليه الصلاة والسلام فأخذ العصا فضرب الجمل -والحديث في الصحيحين - فتحرك الجمل حتى قال جابر: كنت أحبسه لا يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ صلى الله عليه وسلم يداعبه بكلام الأحباب بالسحر، فقال له وهم يمشون في آخر الليل: {يا جابر! أتزوجت؟ قال: نعم.
قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً، قال: هلا بكراً تداعبها وتداعبك؟ قال: إن لي أخوات وقد قتل أبي - يعني: في أحد - وترك عندي سبع أخوات فأردت امرأة تقوم على شئونهن, فسكت عليه الصلاة والسلام، ثم قال: يا جابر! أتبيعني جملك؟ قال: ما ترى يا رسول الله! فشراه بأوقية، فلما ذهب اشترط جابر حملانه إلى المدينة، قال: فدخلت المسجد فصليت ركعتين -وفي لفظ: قال له صلى الله عليه وسلم: صلِّ ركعتين- فلما أتى قال لـ بلال: انقده الثمن, فأعطاه الأوقية, فولى جابر فأخذ الثمن وترك الجمل، قال: يا جابر! تعال خذ الجمل والثمن، فساق الجمل والثمن} قال ابن القيم: كأنه يشير إلى قصة أبيه عبد الله يوم أعطاه الله روحه ثم أخذ روحه وأعطاه الجنة، فهو الذي أعطى في الأولى والثانية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
فهذا هو حب الصحابة لله تبارك وتعالى.
وفي السير عند ابن هشام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: {وقف قبل معركة أحد يعلن الحرب على أبي سفيان على المنبر، ويتحدث للناس ويشاورهم: أنقاتل في المدينة أم نخرج خارج المدينة؟ فقال كبار الناس: يا رسول الله! دعنا نقاتل هنا, فقام شاب من بني سالم، ققال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو! لأدخلن الجنة, فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: بم تدخل الجنة؟ -هل يحلف على الله أحد؟! هل يقسم على الله فرد من الناس، ومن يدر بأحكام الله تبارك وتعالى؟! - قال: بخصلتين، قال: ما هما؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، قال عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك، وبدأت المعركة يوم السبت ودارت رحاها وأتى الصادق -يوم يوف الله الصادقين بصدقهم- فصدق الله فقتل، ومرّ عليه الصلاة والسلام على البواسل من الجنود فوجد هذا فأخذ يمسح التراب عن جبينه وتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم ويقول: صدقت الله فصدقك الله} يقول محمد إقبال:
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
إلى أن يقول:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
عبدة الدينار, عبدة الحلي, عبدة المناصب، عبدة الوظائف -نعوذ بالله أن نكون منهم- لأنهم أحبوا هذا أكثر من حب الله، وعلامة ذلك: ذكرهم لها في المجالس والولاء البراء والحب والبغض من أجلها والانقياد لها أكثر من الحب لوجه الله عز وجل.
جعفر بن أبي طالب من الذي أخرجه فترك أهله وماله وولده وأحبابه؟ وقبل المعركة ماذا فعل؟ كسر غمده، وكسر الغمد عند العرب ليس بالأمر السهل، إذا كسر الرجل غمده على ركبته فهذا يعني: ساعة الصفر وأنه لن يعود أبداً، من الذي جعله يكسر غمده؟ إنه حب الله فيقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
فقاتل حتى الظهر فقطعت يمينه, ولو كان يقاتل لغير الله فأتته نخسة برمح والله لا يثبت في المعركة, والروس يفرون الآن من أفغانستان , حتى إنهم رفعوا أصابع النصر يوم انسحبوا مهزومين، لماذا؟ لأنهم يقاتلون للطواغيت ولا يقاتلون لله، يحبون الحياة:
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ
والذي يقاتل لله لا يفر ولا ينسحب, فقطعت يده اليسرى فضم الراية بعضديه, فكسرت الرماح في صدره فهوى شهيداً وأبدله الله بجناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء, وهذا أعلى الحب.
عمير بن الحمام في بدر يقول له صلى الله عليه وسلم وللناس: {والذي نفسي بيده! ما بينكم وبين الجنة، إلا أن يقتلكم هؤلاء، فيقول الأنصاري عمير بن الحمام -الذي لا يملك إلا الرمح, ولا يملك إلا الثياب البالية, ولا يملك إلا حفن التمر في يده-: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيننا وبين هؤلاء إلا أن يقتلنا هؤلاء؟ قال: إيه والذي نفسي بيده, قال: والله إنها لحياة طويلة إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، ثم رمى التمرات فقاتل حتى قتل -وفي لفظ في السيرة- وخلع درعه من على جنبه}.
وفي الحديث: {ويعجب ربك من الرجل يلقى العدو حاسراً} ولذلك يقول الأول فيه وفي أمثاله:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
أنس بن النضر:
من الذي جعله يزحف حتى يقول سعد: [[هون عليك رويداً رويداً؟ قال: إليك يا سعد! والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، فقاتل حتى قتل]] فما عرف إلا ببنانه، ووجدوا فيه بضعاً وثمانين ضربة؛ لماذا هذا؟ إنه حب الله عز وجل، والمطلوب منا نحن ليس أن نسفك دماءنا، فالحمد لله ليس عندنا سفك دماء، بل أكل خبز وشرب ماء، وصلاة في الجماعة في الصف الأخير! ثم إذا صلينا نظرنا إلى الفسقة الذين هم أسفل منا في الدين, وقلنا: نحن كالصحابة نصلي خمس صلوات في المسجد، وهذا هو حال المتخلف يوم ينظر إلى الأقل منه، لكننا ما نظرنا في الدنيا إلى الذين هم أقل بل نظرنا إلى من فوقنا، فكلما تواصينا بالزهد؛ قلنا: نحن على خير ونحن أفضل من كثير من الناس, أوما رأيت إلى أولئك وأولئك كم عندهم من الدور والقصور والسيارات! فرضينا في الدين بالهون والدنية، ولم نرض في الدنيا إلا بأعلى شيء وقمته، وهو ليس بقمة وليس بأعلى.
فمحبة الله عز وجل هي أعلى المطالب وأعلى ما يطمح إليه المؤمن بلغني الله وإياكم محبته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.