والخليل بن أحمد هو أحد أذكياء الدنيا، هذا العروضي الذي أتى بستة عشر بحراً، كان ذكياً حلف بالله قال: لأضعن حساباً، علم الحساب أضعه حتى تذهب الجارية إلى البقال فلا يظلمها -الجارية البنت الصغيرة- تذهب إلى البقال من عنده فلا يستطيع أن يظلمها مهما كان ذكياً وبقي يفكر حتى دخل المسجد مرة فارتطم بالسارية فوقع دماغه في الأرض فمات، والخطأ منه ليس من السارية لأن السارية واقفة.
كان زاهداً عابداً ولكن أحب علم العروض يقول: تن تن تن يعني: البحور مستفعل مستفعل مستفعل فيتنتن، فدخل ابنه فلما رأى أباه يتنتن ذهب عند أمه وولول، وقال: أبي جُنَّ الليلة، قال الخليل بن أحمد لابنه:
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
يقول أنت لا تعرف ماذا أفعل؟ وأنا لا أعرف أنك سفيه، فأنت تعذلني وأنا أعذرك، هذا معنى كلامه، كان من الأذكياء الكبار، الشاهد أنه لما توفي رُئي في المنام رحمه الله - وهذه ذكرها الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل -قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: تعرفون علم العروض؟ قالوا: نعم نعرفه قال: ما نفعني عند الله بشيء قالوا: ماذا نفعك؟ قال: كنت أعلم سورة الفاتحة عجائز في قريتي.
ذهب التنتن والدندن، يعني: ليس في الحسنات، هو صحيح قد يفيد في الشعر لكن هل يوضع في سجل الحسنات؟ هل الأمة متوقفة حتى تعرف تن تن ودن دن؟ لا.
فالأمة تعيش بدون تن تن ودن دن، ولذلك أذهب أبو الفرج الأصبهاني وقته وحياته في كتاب الأغاني من التنتنة والدندنة ولو أن فيه فوائد.
يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، والثاني: يدري ولا يدري أنه يدري، والثالث: لا يدري ويدري أنه لا يدري، والرابع لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، يقول: هذه أقسام الناس.
فأما الأول قال: فهو عالم فاسألوه، إنسان يدري ويدري أنه يدري، يعني يعرف ويعرف أنه يعرف، فهذا واثق من نفسه عالم تذهب إليه تقول هل تعلم هذا؟ قال: نعم أعلم علم الكتاب والسنة وأنا واثق من نفسي وأقول على حقيقة ودليل وبرهان، فهذا عالم فاسألوه.
أما الثاني: فغافل فنبهوه، أي رجل غافل عنده علم ولكن لا يدري بذلك، يقول: ليس عندي شيء، مع أن عنده حصيلة طيبة من علم الكتاب والسنة ويفهم كثيراً من القضايا، لكن يقولون: تحدث أثابك الله، يقول: ما عندي شيء، قالوا: صل بنا الليلة، قال: أنا لا أعرف أصلي بكم، فلا يدري أنه يدري، قال: فهذا غافل فنبهوه، قولوا: عندك خير، عندك علم، عندك نفع للناس.
أما الثالث: فهذا جاهل فعلموه، إنسان مسكين يقول: أنا ليس عندي علموني ما عندي شيء، فيقول له الناس: أنت لا تعرف تصلي قال: صدقتم كيف كان يصلي صلى الله عليه وسلم؟ هذا جاهل فعلموه.
وأما الرابع: فهو الطامة الكبرى والمصيبة الدهياء: وهو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، وهو الجاهل المركب، يقال له: أنت جاهل، قال: أنا جاهل؟! بل أنا عالم من العلماء، أنت لا تعرف شيئاً، قال: أنا حافظ من حفاظ الدنيا، فهذا هو الجاهل المركب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] إنهم يخدعون أنفسهم، يقول: أحد الشعراء يسب أعداء ابن تيمية:
ولو أنه جهل بسيطٌ عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب
وقوله و (وما يشعرون) في الكلام تقدير أي: وما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] تقديم الجار والمجرور يقتضي الحصر، إذا قلت: في البيت محمد أبلغ من قولك: محمد في البيت، وهذه من صور الحصر.