قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] كيف يقولون باللسان ما ليس في القلوب؟ آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، وصفات المنافقين في القرآن كثيرة منها:
أولاً: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
ثانياً: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54].
ثالثاً: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
رابعاً: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
خامساً: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] مرة مع الفسقة ومرة مع الأخيار، إن جلسوا مع المتقين قالوا: ما أحسن الإسلام! وما أحسن القرآن! وما أحسن هذه المجالس! لقد استفدنا فائدة ما كنا ندري بهذا! فإذا رجع إلى أصحابه -وسوف يأتي ذلك في آخر السورة- قال: جلسنا مع أناس متخلفين حدثونا بأساطير عن آبائهم وأجدادهم، هذه الرجعية التي يتكلمون بها إلى غير ذلك من التهم.
سادساً: أنهم يعتنون بالأجسام وبالظواهر أكثر من المخابر يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] إنهم يشغلون أوقاتهم في الشارات والصور فقط أما الباطن فلا.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر أجسام البغال وأحلام العصافير
أتى وفد من فارس على ابن مسعود -وفد من كسرى- فدخلوا هذا الوفد يتلامعون من البياض والنظرة واللبس، فقال بعض الصحابة: انظر لهؤلاء! قال ابن مسعود: [[ترى الكافر بطيناً سميناً غشوماً ظلوماً، وترى المؤمن هزيلاً ضعيفاً مؤمناً تقياً]] وليس هذا دائماً بالاستطراد، فإنك قد تجد منافقاً هزيلاً ضعيفاً، وقد تجد مؤمناً سميناً بطيناً قوياً، لكن هذه فطر في الغالب، لكن أولئك يعتنون بالمظاهر {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أي: فصحاء.
وعند الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: {البذاء والبيان شعبتان من النفاق، والعي والحياء شعبتان من الإيمان} أي: العي إنسان لا يتحدث، خجول في المجالس، فيه إيمان وحياء والبذاء والبيان شعبتان من النفاق إذا علم هذا فوصفهم الله بهذه الأوصاف {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] يقولون: صيحة عليهم، أي: إنهم يخافون من الأحداث، ولذلك المنافق الآن إذا وقع شيء في الدنيا كأنه وقع في بيته.
ترتفع الأسعار يموت، ودائماً حديث الساعة عنده في المجالس: سمعنا بارتفاع الأسعار، سمعنا بكذا، سمعنا بكذا، نخاف من الحروب هذه، نخاف من الزلازل؛ لأنه يريد الحياة الدنيا فقط، لكن إذا ضيع الصلوات الخمس لا يخاف، وكثير من المسلمين منهم من يفسق، ومنهم لا يخاف من خروج المرأة متبرجة ولا يخاف من انتشار شريط الغناء، والفيديو الهدام ولا يخاف من المجلة الخليعة، لكنه يخاف من الأرزاق والأمطار والأشجار لأن همه الأكبر أن يأكل مثل الدابة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] حكم الله عليهم أنهم كفرة، لأنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9] الخداع معناه الفساد، هو في أصله من الخدع، أي: من الفساد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (يُخَادِعُونَ) ولم يقل يخدعون؛ لأن يخادعون غير يخدعون فأنا أقول لك أنا أخادعك يعني أحاول خداعك، وخدعتك أي: أوقعتك في الخديعة حقيقة، فالله يقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9] ويقول هناك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] أي: أثبت أنه خدعهم حقيقة، وأما هم فجعلهم يحاولون ولكن ما لم يستطيعوا.
فقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] كيف يخادعون الله؟ يقولون: نحن نحب الصلاة ويصلون وليس في قلوبهم إيمان، يأخذون المصاحف فيقرءون ولا يصدّقون بالقرآن، يحضرون مجالس الذكر ولكن مجاملة ورياء وسمعة وهم لا يريدون مجالس الذكر ولا العلم ولا الفقه في الدين، يظهرون النسك والخشوع وليس في قلوبهم نسك ولا خشوع، فهؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا.
و (ما يخدعون) يعني: حقيقة (إلا أنفسهم).
قال: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] كيف قال: (وما يشعرون) لماذا لم يقل: وما يعلمون؟ لأن الذي لا يشعر أعظم جهلاً من الذي لا يعلم.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
إنسان ميت وتأتيه بخنجر وتطعنه، هل يحس؟ لا، ولذلك (لا يشعرون) وهذا هو الجهل المركب، والجهل قسمان: جهل بسيط، وجهل مركب.
والجهل البسيط: جاهل يعرف أنه جاهل، تقول له: أنت لا تحفظ الفاتحة، فيقول: صدقت أنا لا أحفظ الفاتحة.
لكن تأتي إلى جاهل جهلاً مركباً تقول: أنت لا تحفظ -وهو لا يحفظ- فيقول: أنا؟! أنا أعلم الناس، أنا ماهر، أنا من أذكياء الدنيا.
هذا جاهل جهلاً مركباً.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
وتوما هذا رجل حكيم، كان له حمار فتكلم الناظم على لسان حمار الحكيم توما:
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
يقول: لو كان الدهر فيه إنصاف وعدل كان توما هو الحمار وأنا الراكب
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
أي: يقول: أنا جاهل وأعلم أني جاهل لكن صاحبي جاهل ولا يدري أنه جاهل.