قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ما معنى الإنذار؟ يقول القرطبي: الإنذار هو: الخبر في مدة يمكن فيها النجاة، إنسان بقي عليه حتى يسقط في البئر أمتار، فتقول: قف مكانك! أمامك بئر، هذا إنذار، لكن إذا وقع إنسان في البئر فإن هذا إشعار، أما إذا وقع إنسان في البئر فلا تقل: انتبه أمامك بئر، وقد وقع فيها هذا لا يكون.
قال: الإنذار في القرآن هو: الذي يكون فيه وقت يمكن النجاة فيه؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في وصف نفسه: {أنا النذير العريان} والحديث في صحيح البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنا النذير العريان} والنذير العريان عند العرب هو: رجل يأتي قومه فيخلع ثيابه فيبقى كيوم ولدته أمه ويأتي بثوبه يطير به في الجو يعني الهلكة الهلكة، محذراً لهم بأمر عظيم.
ولذلك لما أرسل أبو سفيان أبا ضمضم الغفاري ماذا فعل؟ مزق ثيابه أمام أهل مكة وقال: اللطيمة اللطيمة! يعني أدركوا عيركم، لما قطع صلى الله عليه وسلم طريق العودة، فالنذير العريان: هو الذي يخلع ملا بسه ويبقى عرياناً، ويصيح من على جبل، يقول صلى الله عليه وسلم: أنا مثلي ومثل الناس، كالنذير العريان أتيتكم بالويل والدمار أو بالفلاح في الدنيا والآخرة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] هل الرسول منذر فحسب أم مبشر؟ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] ويقول هناك: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] فكيف نجمع بينهما، يقول: إنما أنت منذر و (إنما) معناها الحصر أي حصرنا رسالتك في الإنذار.
والجمع أن يقال: إذا تكلم الله عن إنذار الكفار حصر مهمته في الإنذار، وإذا تكلم عن البشارة سمى البشارة، وهنا لما أنكر الكفار ألوهية الله؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] وهذا مثل إنسان يقول لك: محمد ليس بكريم! ما هو الجواب؟ إن قلت محمد كريم كان الجواب ضعيفاً لكنك تقول إنما الكريم محمد.
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
وقوله: (ءأنذرتهم) لماذا لم يقل أبشرتهم أم لم تبشرهم؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالنذارة قبل البشارة، فهم أناس سكارى يعبدون الوثن والصنم فكيف يبشرهم؟ إنما ينذرهم ثم يبشرهم عليه الصلاة والسلام، وفي حديث تعرض له ابن تيمية لكن يقول: كما في الحديث وهو حديث ضعيف: يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أنا الضحوك القتال} وقال لكفار مكة لما دعاهم فكذبوا به وقام عقبة بن أبي معيط لعنه الله فبصق في وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: {يا معشر قريش! والله الذي لا إله إلا هو والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح} ابن أبي معيط هذا حضر بدراً فلما رآه صلى الله عليه وسلم في الأسارى مسلسلاً في الحديد، أصبح مأسوراً مع السبعين لم يقتل في المعركة، مر به صلى الله عليه وسلم فالتفت فرآه فقال: {قم يا علي فاقتله} حتى لا يبقى في الأسرى ثم ينجو معهم قال: يا محمد! لمن الصبية؟ قال: {النار} يقول: صبيانك وأولادك لهم النار، نار جهنم، فقتل، وأتى النضر بن الحارث وهو مارد آخر فقتله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أخته فألقت قصيدة، يقول عليه الصلاة والسلام: {لو سمعتها قبل أن أقتله ما قتلته} تقول:
أمحمداً يا خدن كل كريمة من قومه والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أكرم من أسرت إسارة وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته لكن إلى النار}.
فمعنى الآية أي: هؤلاء الذين ختم الله عليهم لا يؤمنون أبداً فلا تتعب نفسك، مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي يدعوهم ليقيم عليهم الحجة، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] لماذا لم يقل يتقون؟ لأن التقوى متدرجة عن إيمان، وإذا ذكر الله الكفر أتى بالإيمان، وإذا ذكر الإيمان ذكر الكفر، وإذا ذكر الآيات الكونية جاء بالعقل، وإذا أتى بالأدلة النقلية، جاء بالفقه، وإذا أتى بالليل؛ أتى بالسمع قال: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] وإذا أتى بالنهار، أتى بالبصر قال: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] الليل لماذا؟ قالوا: لأن الأذن هي الحاسة القوية في الليل، هل رأيتم أحداً ينظر في الظلام، إنما يسمع ولذلك السماع في الليل بسهولة ويكون اختراقاً لحجب الظلمات، حتى في العلم الحديث أن حجب الظلمات يقوي ذبذبات الصوت، ولذلك إذا أتى الإنسان في الليل يسمع من مسافات وآلته المتحركة هي الأذن {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] فلما ذكر النهار ذكر البصر، ولما ذكر الليل ذكر السمع؛ لأن البصر أقوى آلة وأقوى حاسة في النهار، وأما الأذن والسمع فهو في الليل وسوف يأتي ضرب من هذا.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ولم يقل: لا يتقون؛ لأنها مركبة على الإيمان، ولم يقل: لا يفقهون؛ لأنه ليست هنا أدلة نقلية، ولم يقل: يعقلون؛ لأنه ليس هنا أدلة عقلية، ولم يقل: لعلهم يتفكرون؛ لأنه لا يوجد هنا تفكر.