وفي حديث ابن عباس هذا قبل أحاديث الوتر قضايا:
القضية الأولى: أسلفنا منها: أن الغلام الصغير، الذي لم يبلغ الحُلُم له أن يدخل على إحدى محارمه دون استئذان، في غير الأوقات الممنوعة من الزيارة، يدخل على المحارم بغير إذن، ويجلس معهن.
ومنها: الحديث مع الأهل، والاستئناس معهم.
ومنها: أنه لا بأس بالسمر بعد العشاء؛ لأن هناك حديث أبي برزة {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها} وقال: الحديث، أي: الحديث الذي لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويلهي ويكون فيه لغو، ويصد عن صلاة الفجر، فهذا يكرهه صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث مع الضيوف، أو الأهل، أو الحديث في العلم، وفي مدارسة الشرع؛ فهذا لا بأس به، ولذلك عقد البخاري باباً في صحيحه، باب السمر مع الضيف، فلا بأس بالحديث مع الأهل بعد صلاة العشاء.
وفيه: أن المحْدِث حَدَثاً أصغراً له أن يقرأ القرآن؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام -كما قلنا- لا ينتقض وضوءه بالنوم، لكن ليس عندنا دليل أنه نام متوضئاً صلى الله عليه وسلم.
ما هو وجه الاستدلال؟
وجه الاستدلال: أنه لما قرأ صلى الله عليه وسلم هذه غيباً، يرد
Q كيف يقرأ صلى الله عليه وسلم غيباً وهو لم يتوضأ بعد، لأنه توضأ فيما بعد.
وفيه دليل على أن المحْدِث حَدَثاً أصغراً غير حَدَث الجنابة له أن يقرأ القرآن غيباً، لأن الجنب لا يقرأ القرآن، لا غيباً ولا نظراً، والمحْدِث حَدَثاً أصغراً لا يمس القرآن، وله أن يقرأ القرآن غيباً بهذا الحديث وبغيره.
منها: في أثر سلمان قال: [[خرج عمر رضي الله عنه إلى البرية -إلى الخلاء- فقضى حاجته، ثم أتى يقرأ القرآن وهو لم يتوضأ]] يقرأه غيباً رضي الله عنه وأرضاه، فقال رجل من أهل نجد من اليمامة: [[يا أمير المؤمنين! كيف تقرأ القرآن وقد أحدثت ولم تتوضأ؟ قال: أأخبرك نبيك مسيلمة أنه لا يجوز أن يقرأ القرآن إلا من توضأ؟]] يقصد: مسيلمة الكذاب؛ لأنه من اليمامة، وهذا مسيلمة صفَّى حسابه خالد بن الوليد سيف الله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
وأحاديث أخرى، ومنها: الحديث الذي في موطأ مالك مرسلاً لكنه معضود، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم -قال ابن عبد البر أشبه المتواتر-: {أن لا يمس القرآن إلا طاهر} فعُلِم بمفهوم المخالفة أن له أن يقرأ القرآن غير طاهر، ليس جنباً لكنه محدث حدثاً أصغراً، فهذه من القضايا.
ومنها: الجماعة في النافلة: لك -إذا أوترت- أن توتر بأهلك في البيت، ولا تتخذها عادة دائماً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها دائماً، لكن في بعض الأحيان توتر وأهلك معك، وإذا أتاك أناس وأرادوا أن يتنفلوا معك تتنفل فيهم بالليل، أو بعض الأوقات كصلاة الضحى، ولا تتخذ عادة، ففي صحيح البخاري عن عتبان بن مالك قال: {زارني صلى الله عليه وسلم في بيتي فقال: أين تريد أن أصلي لك من البيت؟ قال: فعرضت له حصيراً، وغسلته بالماء، ونضحته، فقام صلى الله عليه وسلم فصفنا خلفه، وصلى بنا ركعتين} قال أهل العلم: هذه صلاة الضحى، وهذا يقتضي جواز الجماعة في صلاة الضحى لا على الدوام، أي: أنها لا تتخذ على الدوام.
والمسألة التي تستفاد كذلك من هذا الحديث: الائتمام بمن لم ينو الإمامة، تأتي في المسجد وأحد الناس يصلي وما نوى أن يكون إماماً، لكن هو فاتته الصلاة فقام يصلي وحده، فلك أن تدخل معه، ويكون إماماً لك، وأنت مأموم، وتصلي معه، وهذا يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي من الليل ما نوى أن يكون إماماً، وإنما نوى أن يصلي ويتنفل حتى جاء ابن عباس.
ومنها كذلك: أن من أراد أن يتنفل، مثلاً: صلى صلاة الظهر في المسجد، ثم قام يصلي ركعتين بعد الظهر وأتى رجل متخلف، فرأى هذا يتنفل، فله أن يدخل معه، ولو كان هذا متنفلاً وهذا مفترضاً، فدخلتَ معه وصليتَ صلاة الظهر، وهو يصلي نافلة، وهذا مأخوذ من هذا الحديث.
ومنها صورة ثالثة كذلك: أنك إذا أتيت المسجد والناس قد صلوا، وما أدركتهم في الركعة الأخيرة مثلاً، فلما سلم الإمام قمت تقضي، وقام بعض الناس يقضوا معك، فلك أن تجعل الذي بجانبك إماماً وأنت مأموماً وتصلي بصلاته، هذه الصورة الثالثة تؤخذ من هذا، وهي جائزة لأنه لم يرد حديث بمنعها.
ويؤخذ كذلك: موقف الإمام وأنه دائماً على يسار المأموم إذا كان واحداً، ولو كانوا جماعة فيصلون عن يمينه أو خلفه، والسنة إذا كثروا فخلفه، والواحد على يمينه ولا يصلي يساره؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه: يرى أن يصلي الإمام وسطاً، وأن يجعل الناس عن يمينه ويساره، ورد عليه أهل العلم بأن هذا منسوخ.
المسألة التي تليها وتستفاد من هذا الحديث: أنه لا بأس بالحركة القليلة في الصلاة؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام تحرك في الصلاة، وأخذ بأذن ابن عباس، وحاله هنا: فلك مثلاً أن تؤخر ابنك عن مكان تخاف منه وأنت في الصلاة، وإذا كنت قريباً من الباب أن تفتح الباب؛ فقد صح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح لها الباب وهو في الصلاة، وفي سنن أبي داود بسند جيد عن سهل بن الحنظلية قال: {أرسل صلى الله عليه وسلم بطليعة قوم ليأخذ أخبار العدو، فأخذ صلى الله عليه وسلم يلتفت مرة وهو في الصلاة}.
ولا يحمل هذا على الترخص، ولا على التنطع، ولا على الخروج عن الخشوع الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم.
ولكن نخبركم بهذا وعندكم خبر به من باب إبراء الذمة، ومن باب عرض بعض سننه صلى الله عليه وسلم للناس، ومن باب إيجاد بعض الرخص لبعض المكروبين في صلواتهم، أو الذين يظنون أنه لا يجوز إحداث شيء في الصلاة، فقد وردت الحركة القليلة عنه صلى الله عليه وسلم.
ويؤخذ من هذا الحديث: الاضطجاع مع الحائض؛ فالمرأة إذا حاضت فلزوجها أن ينام في فراشها الذي تنام فيه، وأن يؤاكلها ويشاربها ويحادثها، ولا بأس بذلك كله.
ومنها: الاعتداد بصلاة الصبي الصغير؛ فأنت إذا لم تجد جماعة، ولا رجل تصلي معه، لك أن تصلي مع ابنك بعد أن يتوضأ، وتجعله معك وتتم لكما جماعة، وإذا أتيت في المسجد ووجدت إماماً ومعك صبي فلك أن تصف مع الصبي وراء الإمام، وتعدُّ بالصف مع الصبي؛ ففي صحيح البخاري عن أنس قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا}.
وأدخل عليه الصلاة والسلام المسجد وهو مريض، في رواية ابن عباس قال: {عليه عصابة دسمة، وهو يتخطى مع الفضل وعلي حتى أدخل، فأجلس على يسار أبي بكر وأبو بكر يصلي بالناس} فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم إماماً، وأصبح أبو بكر بجانبه مأموماً، وأصبح أبو بكر يردد بعده الناس وهو عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي على اليسار هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس أبو بكر.