يقول: ذهبتُ ليلة من الليالي عند خالتي ميمونة، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له تسع نسوة مجتمعات، كل امرأة يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من لياليه المباركة الخالدة؛ يعلمهن مما علمه الله، وينشر لهن السنة لينشرنها في نساء الأمة.
فعلم ابن عباس أن هذه الليلة ليلة خالته ميمونة فأخذ نفسه وذهب وسبق الرسول عليه الصلاة والسلام بعد صلاة العشاء، ودخل وهو لا يريد النوم ولا العشاء، ولكن يريد قوت القلوب والأرواح، يوم أن تتغذى القلوب والأرواح بغذاءٍ لا يشبه غذاء الناس، ولذلك يقول الألبيري:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فقوت الروح: الهداية، والذكر، وآيات الله البينات، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضحات.
وعلم ابن عباس أن خالته حائض؛ وهي في الروايات التي وردت صحيحة، حائضٌ لا يمكن أن يقربها تلك الليلة صلى الله عليه وسلم.
فأتى في فراش ميمونة خالته، فنام في عرض الفراش، ودخل صلى الله عليه وسلم في الليل فالتفت فرأى ابن عباس، وعرف ابن عباس، وقال: {نام الغُلَيم؟} أي: نام الغلام، ولكن الغليم كلمة تَحَبُّبّ، ويصغر الاسم للتحبب، وللتعظيم، وللتصغير، وللتهويل، وهذا للتحبب، قالت ميمونة على حد ما ترى: {نام يا رسول الله} وهو لم ينم:
نامت الأعين إلا مقلةٌ تذرف الدمع وترعى مضجعكْ
فهو يريد العلم، ويريد أن ينتبه لما يقول صلى الله عليه وسلم، فيسمع هذه المحادثة؛ لأنه نقلها للناس.
فقرب عليه الصلاة والسلام من الفراش وأتى يحدث ميمونة ساعة، يقول ساعة على حسابه الزمني:
وفيه العشرة مع الأهل، وحسن الخلق، ومحادثة الأهل، وهذه من سنته صلى الله عليه وسلم، ولا يعتذر المعتذر بكثرة أشغاله، ولا أعماله، ولا ضيوفه، ولا 000، فأكثر الناس عليهم أشغال وأعمال، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشغله ذلك عن محادثة أهله صلى الله عليه وسلم، فلما حادثهم نام عليه الصلاة والسلام ولكن ابن عباس لم ينم.
فقال ابن عباس: {فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه} والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم نامت عيناه، أما قلبه فما نام، فقلبه يسبح، وقلبه مع ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك إذا نام لا ينتقض وضوءه.
ويقوم من النوم صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى المسجد، فتقول عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! إنك نمت؟ قال: يا عائشة! إنها تنام عيناي ولا ينام قلبي} وكان ربما حدث صلى الله عليه وسلم في نومه بالآيات، فقام يقرأها على لسانه، ورؤياه صلى الله عليه وسلم حق كفلق الصبح، فإذا رأى رؤيا تقع، حتى أنه يقول قبل معركة أحد، وهو يستقرئ الأنباء للصحابة ويقول قبلها بليلة بعد أن صلى الفجر، وبعد صلاة الفجر سوف تبدأ المعركة صباح السبت، وسوف يبدأ الالتحام مع أبي سفيان في معركة أحد، قال: {رأيت البارحة كأن ثلماً أصاب سيفي، وكأن بقراً تنحر، وكأني أدخلت يدي في درعٍ حصينة، قالوا: يا رسول الله! ما أوَّلت ذلك؟ قال: أما الثلم في سيفي -كُسْر، وهو في الذبابة، في رأس السيف- فهو رجلٌ من أهل بيتي يقتل، وأما البقر التي تنحر؛ فهؤلاء المؤمنون يصابون ويستشهدون في سبيل الله، وأما أنني أدخلت يدي في درعٍ حصينة؛ فهي المدينة ندخل فيها وتحصننا بإذن الله} وبدأت المعركة وقُتل حمزة، وكان من أول من قتل في المعركة حتى وقف صلى الله عليه وسلم عليه وتغيظ كثيراً وبكى كثيراً وحلف ليمثلن منهم بسبعين، واستشهد من المسلمين سبعين، ودخل في الأخير صلى الله عليه وسلم المدينة.