وتأتي الخنساء السلمية في معركة القادسية، والناس قد اصطفوا للقتال, المسلمون في جهة والكفار في جهة, حزب الله في ناحية, وحزب الباطل في ناحية, ولا إله إلا الله ترتفع هنا, وراية الباطل ترتفع هنا, فالتفتت إلى القبلة ورفعت يديها، وقالت: [[اللهم إنه ما عندي اليوم أغلى من أبنائي الأربعة, اللهم إني أقدمهم لك، اللهم ارزقهم الشهادة هذا اليوم, فتأتي إلى أبنائها الأربعة, ليس لها عائل يعولها في الدنيا إلا هؤلاء الأبناء, وليس لها في الناس أحب إليها من هؤلاء الأبناء, مات أبوهم وأقاربهم, فقالت: يا أبنائي! اذهبوا واغتسلوا وتحنطوا وتكفنوا, فذهبوا واغتسلوا وتحنطوا ولبسوا أكفانهم ثم أتوا, فقالت: والله ما خنت أباكم ولا خدعت خالكم، والله إنكم أبناء رجل واحد, فإني أحتسبكم عند الله يوم العرض الأكبر, وأقدّمكم هذا اليوم, فإذا أتيتم فأخلصوا بلا إله إلا الله ولله، ثم لا أراكم إلا يوم العرض الأكبر, فلما انتهت المعركة أتوا يبشرونها، قالوا: قتل أبناؤك الأربعة, فتبسمت! وهذا من فرح المؤمن.
طفح السرور عليّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وقالت: الحمد لله الذي رفع منزلتي بشهادتهم, اللهم اجعلهم عندك {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]]] الوداعة لا تضيع عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا استودعت غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ضيعت وديعتك، أما الله فلا تضيع عنده الودائع.
ولذلك حفظ لنا الإسلام هذه النماذج الخالدة يوم أن كنا مسلمين, يوم كانت بيوتنا تبيت مع القرآن, وتصبح مع القرآن, فلما استبدلنا بالقرآن الغناء الماجن والعهر والفحش -إلا من رحم الله- ضاعت أجيالنا, وضاع شبابنا, وضاعت نساؤنا وبناتنا, وأصبحنا نتلفت فلا نجد إلا قلوباً جافة خامدة هامدة قست من المعاصي, فأملنا في الحي القيوم أن يعيدنا كما كان عليه سلفنا الصالح.