يأتي عمر فيكون من الخائفين لله, أول مخافته من الله يوم خطب أول خطبة للجمعة, أول ما أعلن فيها مبادئه وأسسه التي ينبغي أن يسير عليها، قطع له البكاء, فقالوا: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: والله لوددت أنني لم تلدني أمي, يا ليتني كنت شجرة تعضد {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
وهذا هو مقصود الخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولا يكفي الخوف النظري كما قلت, بل صاحب ذلك خوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إن كان في أعماله كان خائفاً من الله.
يذكر الذهبي عن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه خرج ذات ليلة من الليالي يطوف في سكك المدينة -فكان خليفة لا ينام إلا قليلاً، تقول له زوجته عاتكة بنت زيد: [[يا أمير المؤمنين! لماذا لا تنام؟ قال: إن نمت في النهار ضاعت رعيتي، وإن نمت في الليل ضاعت نفسي]] فأما الليل فصلاة, وأما النهار فمحافظة وسعي لصالح الأمة- فسمع امرأة تبكي من وراء الباب, فأنصت قليلاً وهو يبكي!! فقال له أسلم: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه المرأة في النفاس، وإنك لا تدري ماذا تجد من ألم الولادة! قال: اذهب بنا يا أسلم، قال: فعدت معه إلى بيت مال المسلمين، فحمل جراباً من شحم، وجراباً من زيت، وجراباً من دقيق، قال: احمله على ظهري -وهو خليفة- قلت: يا أمير المؤمنين! أنا أحمله عنك؟
قال: أأنت تحمل أوزاري يوم القيامة؟ قال: فحمله ووالله لقد رأيته يهرول أمامي ثم دخل البيت واستأذن وقام في طرف البيت يصنع عشاء هؤلاء الأسرة, فتقول له المرأة: من أنت رحمك الله! والله لأنت خير من عمر بن الخطاب -تقول: أنت بتواضعك وخدمتك وقيامك على شئوننا خير من الخليفة عمر، وهي لا تعلم أنه هو عمر - قال أسلم: فلما انتهينا انطلقت معه وقد أذن لصلاة الفجر, فقام يصلي بنا، فلما بلغ قوله تبارك وتعالى في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] بكى! حتى سمعنا بكاءه من آخر الصفوف, ثم عدناه شهراً كاملاً من خوف الله عز وجل.
فأين هذه القلوب؟ وأين هذه الأرواح التي تربت على القرآن؟ وما لنا حل ولا صلاح ولا فلاح ولا سعادة إلا أن نراجع حسابنا مع الله عز وجل, وأن نعود بسير هؤلاء وبأمثالهم نستقرؤها, ونكررها في المجالس والمنتديات والمحافل ونعيدها دائماً وأبداً؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
قال أبو حنيفة -رحمه الله-: سير الرجال أحب إلينا من كثير من الفقه؛ لأن الفقه أحكام مسيرة يقوم بها طائفة من الناس, أما السير والمواعظ والرقائق؛ فإنه ينبغي لكل عبد أن يكون خائفاً من الله, راجياً موعود الله, مخلصاً لله تبارك وتعالى صادقاً فيما بينه وبين الله.