دخل المهدي الخليفة العباسي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وكان الناس مجتمعين فيه, طلبة العلم، وأهل الحديث والفقه والتفسير, ومنهم الزاهد العابد العالم ابن أبي ذئب، فلما دخل الخليفة ومعه قواده وحرسه قام له الناس في المسجد احتراماً إلا ابن أبي ذئب فما قام ولا تحرك, فاقترب منه الخليفة قال: لِمَ لَمْ تقم وقد قام لي الناس جميعاً؟
قال: والله الذي لا إله إلا هو، لقد أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذلك اليوم, فانظر كيف تذكر بقيام الناس يوم يقوم الناس من قبورهم!
ولذلك الذي نعني به في هذا المكان أن الذي ينبغي علينا أن نحصِّل أسباب الخوف, وأن نتذكر ما يمكن أن نتوصل به لنكون خائفين من الله عز وجل, لأن من خاف من الله أمَّنه يوم الفزع الأكبر, ومن أمن منه اليوم خوَّفه يوم الفزع الأكبر, قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103] ثم يقول عز من قائل عن هذا اليوم: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
ولقد كان وعداً عليه أن يرث الأرض ومن عليها ويجمعنا ليوم لا ريب فيه.
ولذلك كما أسلفنا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه, ما كان خوفه مجرد خوفٍ نظري، لأن بعض الناس في المواعظ يخاف, ولكن إذا خرج نسي -نعوذ بالله من الغفلة- هو يخاف إذا ذُكِّر, ولكن ما يمر عليه برهة أو ذهب من الزمن إلا قدر الموعظة, أما أبو بكر وأمثال أبي بكر فكان خوفهم معهم يصاحبهم دائماً وأبداً ليل نهار.
وذكر ابن القيم: [[أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما تولى الخلافة كان يخرج إلى ضاحية من ضواحي المدينة المنورة بعد صلاة الفجر كل يوم, فتفقده عمر بن الخطاب وسأل عنه! فقالوا: لا ندري أين يذهب؟ قال عمر: لأذهبن وراءه هذا اليوم وأرى ماذا يصنع! فذهب وراءه رضي الله عنه وأرضاه وإذا به دخل خيمة امرأة أعرابية مسلمة فتركه عمر حتى خرج من الخيمة, فدخل وراءه وأبو بكر لا يرى عمر، فأتى عمر فوجد امرأة عجوزاً عمياء معها أطفال، فقال: يا أمة الله! من أنت؟ قالت: أنا عجوز حسيرة كسيرة في هذه الخيمة, قال: ومن هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: رجل لا أعرفه من المسلمين -لم تعرف أنه أبو بكر - قال: ماذا يصنع إذا دخل عندكم؟ قالت: يأتينا كل يوم لأن أبونا مات منذ زمن, فيصنع طعامنا للإفطار، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا, فجلس عمر يبكي ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!]] إي والله أتعبت الخلفاء بعدك, وأتعبت كل مسئول حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
تصوروا أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة المسلمين الذي ضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة, يأتي ويصنع الإفطار لهذه العجوز وأطفالها ويأتي ويكنس البيت ويحلب الشياه, فرضي الله عنه وعن أمثاله وحشرنا في زمرتهم.