ويقول ابن مسعود ذاك الشاب الذي كانت هدايته على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ابن مسعود الذي جسمه وهو واقف كالرجل الجالس, ليس عنده جسم ولكن عنده قلب, والله عز وجل لا ينظر إلى الأجسام أو الصور أو الأموال أو المناصب أو الأولاد، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم -وفي لفظ: ولا إلى أموالكم- ولكن ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم} فالقلب محل نظر الرب تبارك وتعالى.
وقد ذم الله المنافقين الذين ماتت قلوبهم من النفاق، ولكن عاشت أجسامهم كأجسام البغال, قال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
فالعبد الذي لا يعتني بقلبه ويخلصه لله لا ينفعه جسمه ولا ماله ولا منصبه ولا ولده, أتى ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه وأسلم لرب العالمين, كان راعي غنم، وأبو جهل كان سيداً من سادات مكة، إذا قال لأهل مكة هذا الأمر هو الأمر, قالوا: هو الأمر, وإذا نفى أمراً نفوه, وإذا أثبت أمراً أثبتوه, ولكن خسئ ذاك الفاجر؛ لأنه ما آمن برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما ابن مسعود فآمن فرفعه الله عز وجل وأكرم منزلته, وجعله من عباد الله الصالحين.
صعد ذات مرة شجرة من الشجر وجسمه نحيف, فأخذت الريح تعبث بأوراق الشجرة وغصونها وهو عليها يهتز، فتضاحك الناس, جسم نحيل لطيف صغير, ولكن فيه قلب وعى القرآن، وفيه قلب معمور بلا إله إلا الله, وفيه قلب عاش على مبادئ لا إله إلا الله, فيقول عليه الصلاة والسلام: {أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} هذا هو الإيمان, يوزن يوم القيامة، إيمان المؤمن ويقينه وثباته وصدقه وإخلاصه, ويتهاوى أهل الفجور فلا إيمان ولا إخلاص ولا صدق.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {يحشر المتكبرون يوم القيامة على صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم} فنعوذ بالله أن نتكبر في الدنيا ونحن من المهانين في الآخرة, ونعوذ بالله أن نتجبر على متن هذه الأرض ونحن من المعذَّبين في بطنها, نعوذ بوجهه وجلاله ونوره.
إذا علم هذا، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحرك شجونه بالقرآن الكريم, لتذكره الآيات مخافة الله تبارك وتعالى, يقول لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: {اقرأ عليّ القرآن؟ فيقول: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ -حياء وأدب وسكينة من ابن مسعود يتعاظم أن يقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعلم القرآن هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقول: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فاندفعت أقرأ في سورة النساء، فلما بلغت قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]
قال: حسبك الآن فنظرت فإذا عيناه تذرفان} فعليه أفضل الصلاة والسلام, ما كان أتقاه لله! وما كان أخوفه من ربه تبارك وتعالى! حتى كان عليه الصلاة والسلام إذا قام في النافلة كما يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: {دخلت عليه صلى الله عليه وسلم فسمعت في صدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء} والمرجل: هو القدر إذا استجمع غلياناً.