واستمر الحال بـ عمار حتى بلغ السبعين، وقيل: الثمانين من عمره، فلما حضر معركة صفين التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عن الجميع {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] مرض عمار في أول المعركة، فقال ابنه: يا أبتاه! أوصِ بدينك فأني أظنك تموت، قال: [[والله لا أموت حتى أقتل في المعركة، وعد خليلي الصادق المصدوق ما كذب ولا كذب]] ولما حضر المعركة أتوه بكوب من لبن، قال: أشهد بالله أنه آخر شرابي من الدنيا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني أن آخر ما أذوقه من الدنيا شربة لبن.
فشرب وخرج وكان من أشجع الناس، وتصور ابن ثمانين يقاتل، وقاتل حتى قتل في سبيل الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بعض الناس أنه سوف يقتل، هذه من أقوى دلائل النبوة التي عاشها صلى الله عليه وسلم والتي قدمها للإنسانية {كان رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في حجر علي مرة فتبسم، قال علي: مالك يا رسول الله؟ قال: أتدري من أشقاها؟ -يقول صلى الله عليه وسلم: أتدري من أشقى الأمة؟ - قال: ما أدري، قال: أشقاها قاتل الناقة وأشقاها من يخضب هذه بهذه، ثم أشار إلى لحية علي بن أبي طالب وكانت كثة} هذا أشقى الأمة عبد الرحمن بن ملجم.
فأتى علي رضي الله عنه، ومرض ليلة بالحمى، فقام الحسن والحسين يدفونه، ويقولون: مرض الموت يا أبتاه مرض الموت، قال: لا.
والله لا أموت حتى تخضب هذه من هذه، وعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وليس على الأقدام تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وبالفعل قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي عليه غضب الله، ولما قتله قال عمران بن حطان مادحاً له:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه من خير خلق عباد الله إنسانا
هذا خارجي يمدح خارجياً، فرد عليه أحد شعراء أهل السنة، فقال:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن الكلب عمران بن حطانا
فنسأل الله أن يرفع منازل الصالحين، ويجمعنا بهم، هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم من تلك السلالة، ومن ذاك الموكب، (ومن يشابه أبه فما ظلم) وحبهم يدخلكم مع العمل الجنة، ومن تولاهم في الدنيا تولاه الله في الآخرة، نشهد الله على حبهم، وعلى توليهم، وعلى بغض أعدائهم، ونسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.