ونام الجيش في ليلة من الليالي، والحديث في البخاري والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، فقال: {من يحرسنا هذه الليلة، ويحبس علينا صلاة الفجر} أي: يوقظنا لصلاة الفجر، هبط في معرس من الأرض يريد أن يوقظهم أحد الصحابة، قال بلال: أنا يا رسول الله! فوقف مع ناقته يصلي ويتهجد، فلما قرب الصبح، جلس بجانب الناقة فنام حتى طلعت الشمس، فلما طلعت الشمس، حمي الناس من الشمس، لم يقم أحد من الجيش، معهم المشرع المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإلا فالله كان يوقظه؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، لكن أراد الله أن يشرع للأمة، يخبرنا ماذا يفعل الإنسان إذا نام.
وعند الإمام مالك في الموطأ، حديث يقول: {إني لأنسى لأسن} وهو منقطع لكن معناه صحيح، أنسى، أي: ينسى صلى الله عليه وسلم ليسن للناس، ينسى ليشرع للناس، فكان أول من استيقظ لحرارة الشمس عمر بن الخطاب، وكان رجلاً مهيباً جلداً صابراً حازماً، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً -وانظر إلى الأدب كيف صاغ الله هذه الأمة حتى أصبحت تتعامل مع رسولها عليه الصلاة والسلام! أتظن أن عمر يأتي ويقول: يا رسول الله! قم تأخرت عن الصلاة، أو يقول: يا رسول الله! ويرفع صوته، لا.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] لا تتعاملون مع هذا الرجل كبعض الرجال، إنه رسول، إنه معصوم، إنه نبي- فأتى عمر فوقف بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم.
فلما استيقظ الناس وإذا بهم من الخوف والهلع ما الله به عليم، أول مرة في تاريخهم تطلع عليهم الشمس، وهم لم يصلوا الفجر، فقل لي بالله كم من ملأ لا يصلون الفجر دائماً إلا بعد طلوع الشمس، لكن يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
فقال صلى الله عليه وسلم: ما عليكم، أي: لا تخافوا ولا تحرجوا، ثم أمرهم بالاستيقاظ والمشي، فمشوا من هذا الوادي، يقول صلى الله عليه وسلم: {هذا وادٍ بات معنا فيه شيطان} قيل: وادي العقيق، وقيل: وادٍ غيره، ولكن يهمنا أن هذا الوادي بات شيطان مع الصحابة فناموا، فلما مشوا قليلاً، قال صلى الله عليه وسلم: أعندكم ماء؟، قالوا: ما عندنا يا رسول الله شيء، فالتمسوا في القرب فما وجدوا ماءً، يريدون أن يتوضئوا، جيش ما يقارب ثمانمائة مقاتل، قال صلى الله عليه وسلم: يا علي! - وهو رجل المهمات أبو الحسن:
فلسان يدعو وعقل يشير وحسام يمضي وفكر جدير
قال: يا علي! ويا زبير! التمسا لنا الماء، والزبير كذلك رجل المهمات، حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما من أشجع الناس.
فذهبا على فرسين في الصحراء، وإذا بهم بأعرابية أقبلت على جملين تريد الماء لأهلها، هذه بدوية ذهبت تستقي من غدير وركبت القرب على الجمال، وذهبت تريد أهلها، فاعترضها علي بن أبي طالب والزبير، فقالا لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الصابئ؟ أي: المنحرف عن دين آبائه وأجداده إلى دين غيره، وهذه كلمة من التشويش الإعلامي الذي وقع له صلى الله عليه وسلم، قالوا: هو الذي تريدين، صلى الله عليه وسلم، وهذا جواب لطيف، لو قالا: نعم.
لكانا أخطأ، ولو قالا: لا، لما عرفت هي، ولذلك قالا: هو الذي تريدين.
فذهبا قبلها بالفرسين وهي وراءهم بالجمال، فلما اقتربوا أخذ صلى الله عليه وسلم قربة من قربها، فقال: صبوها عليَّ، فأخرج يده البيضاء النظيفة الجميلة، التي لم تعرف سفك الدماء ولا السرقة، ولا أكل أموال الشعوب، ولا اللعب بالمبادئ، اليد التي أخرجتني وأخرجتك وأخرجت هذا العالم من الظلمات إلى النور، فقال: صبوا، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال أنس: [[والذي نفسي بيده، إني رأيت الماء ينبع من بين أصابعه كالأنهار]] ليس من القربة، إنما من بين يديه، فأخذت الصحاف تمتلئ ويغتسل الناس ويتوضئون ويملئون القرب من قربة واحدة.
فلما انتهت، دعا صلى الله عليه وسلم بالبركة لها، فامتلأت قربتها، لم ينقص منها شيء ولم تذهب منها قطرة، وأعادها على الجمل، ثم قال للناس: اجمعوا طعاماً لهذه الأعرابية، فجمعوا طعاماً ووضعوه على جمالها، ثم ذهبت.
هذا من قصص بلال، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: {إن بلالاً يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم} كان يؤذن قبل أن يوتر الناس، وابن أم مكتوم ينادي مع الفجر، أتى صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي -والحديث صحيح- وفي الصباح قال للصحابة: {يا بلال! دخلت الجنة البارحة، فسمعت دفَّ نعليك في الجنة، فماذا كنت تصنع؟ قال: ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بعده ركعتين}.