فلما أنزل الله ذلك وقف صلى الله عليه وسلم على الصفا، وقد كان هناك وادٍ بين الصفا والمروة قبل أن تسوى الآن، وقبل أن يصلح حالها ويطبطب، واد فيه شجر ولم يكن مغطى، وكانت الصفا من أرفع أماكن الحرم، وتحتها قرى قريش حول الحرم، فوقف صلى الله عليه وسلم ورفع صوته بالنداء، يدعو كفار قريش بطناً بطناً: يا بني فهر! يا بني عدي! يا بني كعب: فلما نادى القبائل اجتمعت، يقول الراوي: كان الرجل إذا سمع الصوت ولم يستطع أن يأتي أرسل ابنه أو أخاه؛ لأن المسألة صعبة وقريش إذا سمعت النداء، فمعناه إما عدو هجم عليهم، وإما رجلٌ منهم قتل، وإما جيش عرمرم يريد اجتياح الحرم، هذه احتمالات.
فاجتمعوا حتى ملئوا الحرم، منهم من اجتمع بالسلاح، ومنهم من كان لابساً رمحه، ومنهم من تدرع، وأتى الشيوخ والنساء والأطفال، فلما اجتمعوا: قال: يا قريش! قالوا: نعم، قال: {أرأيتم لو أخبرتكم أن ببطن هذا الوادي خيلاً تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟} هذا سؤال عجيب، يقول: لو أخبرتكم أن جيشاً يريد اجتياحكم أتصدقوني أم لا؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً هل سمعتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر أربعين سنة، هل يمكن أن يكون له فيها كذبة أو خيانة أو سرقة أو غش؟ هل سمع في التاريخ بهذا؟ {قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا}.
فقال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] تلاها على الصفا، والله يقول له ذلك في مكة وليس عنده إلا أربعة: أبو بكر وخديجة وزيد وعلي بن أبي طالب، فأخذ بعض الكفار يلتفت في بعض ويضحك، ويقول: أي رحمة للعالمين وهو يتخفى بصلاته، لكن أراد الله عز وجل ذلك، ويقول: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
وبعد خمس وعشرين سنة، أما سارت كتائبه إلى قرطبة؟ أما وصلوا إلى الحمراء؟ أما فتحوا الهند والسند؟ هذا رحمة للعالمين.
فقال أبو لهب لما سمعه وهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان وضيء الوجه، لكنه ليس وضيء المبادئ، وهذا دين فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] والهداية هبة ربانية، لا تأتي للأسر، ولا للأموال، ولا للأولاد، يمنحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الفقير، ويحرمها الغني متى شاء.
ذكر ابن جرير وغيره أن موسى عليه السلام تربى في بيت فرعون الطاغية، فرباه فرعون وأعطاه فرعون التعاليم، ولقنه المبادئ، لكن لم يستمع لأي جملة من مبادئه تماماً، وموسى السامري رباه جبريل عليه السلام، فلما رباه جبريل على التوحيد وصل هذا عمره أربعين وهذا أربعين، هذا الذي ربَّاه جبريل كفر بالله العظيم، وهذا الذي وصل الأربعين -موسى- أصبح نبياً من أنبياء الله عز وجل من أولي العزم، قال الشاعر:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن