وممن أسلم كذلك: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في مكة، وهو من المتقدمين، وفي بعض الروايات أنه يحشر مع عيسى عليه السلام، وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر الغفاري} وهو الزاهد الكبير والعابد.
أما سبب إسلامه فإنه كان في البادية، في قبيلة غفار في شمال مكة، وكانت بادية لم يكونوا حاضرة، فسمع بمبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال لأخيه أنيس: يا أنيس! اذهب إلى هذا الذي يدِّعي النبوة في مكة، فأعطني منه خبراً، فأتى أنيس فركب جمله، وأبو ذر يرعى إبل وغنم أخيه مع إبله وغنمه، فذهب أنيس هذا؛ فدخل مكة؛ فلقيه أبو لهب، قال أنيس: من هذا الذي يدعي النبوة عندكم؟
قال: كذاب، ساحر، شاعر، خرج علينا يسب آلهتنا، فخرج أنيس وما أخذ الخبر.
وأتى إلى أبي ذر، قال: يقولون: كذاب، ساحر، شاعر، قال: ما أنصفتني وما شفيت غليلي، فركب جمله رضي الله عنه وأرضاه، فوصل إلى مكة فدخلها في ظلام الليل.
فالتقى بـ علي بن أبي طالب وهو شاب، قال لـ علي: دلني على هذا الذي يدعي النبوة؟ قال: هو ابن عمي، وصدق، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو ابن عم علي فهذا علي يبكي في معركة تبوك ويقول: يا رسول الله! خلفتني مع النساء والأطفال؟ قال صلى الله عليه وسلم وعيونه تهراق بالدموع: {يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي} ويقول صلى الله عليه وسلم لـ علي: {لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق}.
فالمقصد: أن خرج علي بن أبي طالب وقال لـ أبي ذر: إذا توقفت أصلح حذائي أتظاهر كأني أصلح حذائي فهو الرجل القريب مني؛ لأنه لا يريد أن يكشف نفسه لكفار قريش، فأتى علي فنزل مع أبي ذر إلى الحرم، فلما اقتربوا كان صلى الله عليه وسلم يجلس في وسط الحرم؛ دائماً هو في عراك -كل يوم وكل ليلة- مع كفار قريش، يقول: {قولوا: لا إله إلا الله} ويقولون: لا.
وثلاثمائة وستين من الأصنام حول الكعبة لم يهدمها؛ لأنه ينتظر بها مستقبل لا إله إلا الله، حتى يهدمها {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح:1 - 3] فوقف صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وتوقف علي يصلح حذاءه، فتقدم أبو ذر وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: عم صباحاً يا أخا العرب -هذه تحية الجاهليين- العرب إذا التقى أحدهم أخاه في الجاهلية، يقول: عم صباحاً يا أخا العرب، ويقول امرؤ القيس في قصيدته الشهيرة:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله أبدلني بتحيةٍ خيراً من تحيتك} قال: ما هي؟ قال: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: من أنت؟ قال: {أنا رسول} قال: من أرسلك؟ -هذا يسمى اللقاء الحار- قال: {الله} قال: بماذا أرسلك؟ قال: بعبادة الله وحده وإقام الصلاة، وصلة الرحم، والبر، ثم ذكر له، قال: أسمعني مما أنزل الله عليك، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وبدأ صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه من القرآن، قيل: من سورة فصلت، فقال أبو ذر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: {من أين الرجل؟ قال: من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام، ورفع طرفه إلى السماء، وقال: إن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
أبو جهل وأبو لهب عند الحجر الأسود، رفضوا لا إله إلا الله، ويأتي هذا من غفار يسلم، قال: يا رسول الله! ائذن لي أن أجهر بالدعوة، قال: لا.
-انظر الحكمة! يقول: لا تجهر الآن- فخرج أبو ذر ووقف على الصفا، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقام عليه كفار قريش، وضربوه حتى سال دمه وأغمي عليه، فأتى العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا معشر قريش! هذا من غفار، والله إن سمعت قبيلته، لتمنعن عنكم تمر وحب الشام فلا يصلكم منه شيء، فتركوه.
وبعدما هاجر صلى الله عليه وسلم، أتى أبو ذر بقبيلة غفار بكاملها، كأنها جيش، ودخلوا في دين الله أفواجاً وأسلموا، وهو سيدهم عند الله، وله قصة طويلة شائقة.
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قلت لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا
جمعنا الله وإياهم في دار الكرامة، ووفقنا وإياكم لسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وهدانا لا تباع سنته، وحشرنا في زمرته، وسقانا شربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبداً.