جاء في الليل المظلم وقال موسى لبني إسرائيل: لا تخبروا أحداً، غداً سوف نرتحل ونهاجر من مصر؛ لأن فرعون عذبنا وسوف يقتلنا، فإنه قال للسحرة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71] أسلم السحرة وسجدوا لله، ففرعون إذاًَ سوف يجزرهم جزراً، فقال موسى: الصباح الصباح، قبل أن يطلع الفجر ليكن الكل متهيئاً، كم كانوا؟
قال ابن جرير الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة ألف، اثنا عشر سبطاً (قبيلة) كل سبط خمسون ألفاً.
بنو إسرائيل أهل سرق ومرق إلا من آمن منهم، يحبون الخيانة، استعاروا الحلي من آل فرعون في الليل، كما يقال في المثل: (إذا كنت رايح كثر من الفضائح) فاستعارت كل جارة يهودية حلي جارتها من القبطيات المصريات، ثم مضوا مع الفجر.
قال ابن عباس: فمات كل بكر لكل مصري ولد له مولود، فاشتغلوا بدفنهم في ذاك الصباح لكي يتأخروا، ولذلك يقول تعالى في كتابه: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] أي: ما أتوا إلا مع شروق الشمس، أراد فرعون أن يخرج مع الفجر من المدينة وقال: انتبهوا علينا أن نذهب وراءه! فمكثه الله ولبثه بقضاء وقدر فتأخر حتى طلعت الشمس.
قطع موسى نصف المرحلة من الطريق يريد فلسطين، وفرعون خرج من مصر بالجيش وراءه، قيل كان معه ألف ألف أي: مليون مقاتل، وأما موسى فإن معه الأطفال والنساء والبنات من بني إسرائيل -على موسى وعلى هارون السلام- فلما أصبحوا في الصحراء التفت موسى، وكان دائماً كلما مضى قليلاً يلتفت وراءه، فهو يعرف أن هذا الخبيث سوف يتابعه ولن يتركه، وفجأة وإذا بالجيش أشرف كالجبال أين يلتفت؟ هل يلتفت إلى واشنطن أو موسكو؟ أو يقدم مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة؟ بل يلتفت إلى الله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] فقال: يا رب قال: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] هذا هو الموعد الثالث، يقول: نحن أرسلناك، إذاً نحن نضمن سلامتك فلا تخف، ولماذا تخف؟
من الذي يحمي؟
من الذي يرعى؟
من الذي يهدي؟
من الذي يسدد إلا الله، فلا تخف، فلم يخف ومشى، وبعد قليل أصبح بنو إسرائيل تصطك لحاهم؛ لأن الخوف داخلهم والعرق يتصبب قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] فتوقفوا عند البحر ونظروا وإذا بالجيش يقترب منهم قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] يقول: أنا أسير بقوة الله، لا تخافوا فالنصر معي بإذن الله.