الثالث من حقوق العلماء على الأمة عذرهم إن أخطئوا في اجتهادهم.
أولاً أيها الأحباب! ليس العلماء معصومين، لأنه من عقيدة أهل السنة ليس معصوماً إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما العالم فليس معصوماً، قد يخطئ وقد يذنب، تجوز عليه الكبائر في الجملة، ولكن قد يتوب منها، وقد يأتي بمسألة يظنها صحيحة وهي خطأ، ويأتي بوجهة نظر وهي متردية لا تساوي شيئاً، لكن لا تسقط عدالته ولا تذهب كلمته.
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح كما ورد عن عمرو بن العاص: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد} فإذا اجتهد وبحث عن الأدلة، رأى دليلين في موطن التعارض، رأى من عمومات النصوص، وحاول أن يجتهد، لكنه أخطأ، فله أجر واحد لأنه أخطأ، وإن أصاب فله أجران؛ أجر الاجتهاد وأجر الصواب.
ولـ ابن تيمية رسالة بديعة اسمها: رفع الملام عن الأئمة الأعلام وقد عذر اختلاف أهل العلم في مسائل الفروع التي يختلف فيها، وفيها يجري الاجتهاد.
ومن أعذارهم:
أولاً: أن الدليل قد يبلغ هذا العالِم ولا يبلغ العالِم الآخر؛ فقد يكون وصلك الدليل لكن لم يصلني أنا، مثل: تحريك الإصبع، فأنا -مثلاً- لا أحرك إصبعي في الصلاة وأنت تحركها، فتسألني: لماذا لا تحرك إصبعك؟
أقول: ما وصلني الدليل، فهذا تَعَذَّر عليه، ولك أجر واحد أنك اجتهدت بحسب ما وجدت، ولا تبطل صلاتك، وتبقى المسائل الفرعية مختلفٌ فيها.
ثانياً: أن يكون الدليل عندك ثابتٌ وعندي منسوخ.
تقول: هذا الحديث لماذا لا تعمل به؟
أقول: منسوخ.
فلا تحمل عليَّ، ولا تشنع ولا تغضب عليَّ، فقد اجتهدت فأخطأت.
وثالثاً: أنه قد يكون عندك الحديث صحيحٌ، وعندي ضعيف؛ والتصحيح والتضعيف -يا أيها الفضلاء- أمرٌ اجتهادي، لك أن تصحح الحديث ولي أن أضعفه بطرقي الخاصة، ولذلك تجد حديثاً يصححه ابن حجر ويضعفه -مثلاً- من بعده كـ السخاوي -مثلاً- أو الألباني، ويصحح ابن تيمية حديثاً ويضعفه ابن القيم، فلا حرج والمسألة فيها سعة، إنما الصدق، والنصيحة، والإخلاص، والجد في طلب الدليل.
ورابعاً: أنك قد تفهم من الدليل ما لا أفهم أنا، مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فهم الأحناف من هذه الآية: أنها تدخل فيها الثمار والحبوب والخضروات، فقالوا: في الخضروات زكاة، حتى الجرجير عند الأحناف فيه زكاة، والخس والبقدونس.
وقال الجمهور: لا.
وإنما فيما يحصد فقط؛ لأن الله يقول: {يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] والجرجير والخس والبقدونس لا تحصد.
فماذا نفعل؟! هل نضلل الأحناف؟
لا.
بل نقول: اجتهدوا فربما أخطئوا ولهم أجر واحد، والجمهور لهم أجران، وهكذا المسائل، ومن عَبَدَ الله على مذهب أبي حنيفة نجا بإذن الله، أو على مذهب مالك، أو على مذهب أحمد، أو على مذهب الشافعي، شريطة أن يبحث طالب العلم عن الدليل في أي مذهبٍ كان، ويعمل به، ويتمسك بدليل عن المعصوم، ولا يسعه إلا ذاك.