اسمع! سمع الصحابة الخبر، فاجتمعوا جميعاً حول المسجد، فاختلطت أصوات النساء بالرجال وبالأطفال من البكاء، فأصبح زعماء المعارك، وقادة ميادين المعركة، وحملة الألوية؛ يخورون كما تخور الأطفال، خالد وسعد وطلحة والزبير، الذي كل إنسان منهم تاريخ انهد تماماً!
وقف عمر، فما استطاع أن يقف على قدميه وسقط بين الرجال.
اجتمعوا حول المسجد، كأنهم غمامةٌ تدور، وفي بكاء رهيب يتسلون بالصبر.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغلٍ عن السفر السفر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
قام عمر، وأبو بكر كان غائباً لم يدر بالخبر إلى الآن أبو بكر في مزرعته في عوالي المدينة كان عنده مزرعة نخل يغرس هناك بمسحاته، وهو الصديق الأكبر لم يدر بالخبر! قام عمر على المنبر، فسل سيفه، وبيته صلى الله عليه وسلم مغلق على الجثمان الشريف، فقال: يا معشر الناس! من زعم منكم أن محمداً قد مات ذبحته بهذا السيف.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يمت، وإنما رفع إلى السماء كما رفع بعيسى، وسوف يمكث أربعين ليلة، ثم يأتي، هذا رأي عمر، وهذه وجهة نظره في الحادث، ثم نزل عمر مع الناس يجول بسيفه، ليستمع من الذي يقول: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فيذبحه كما يذبح الشاة، وسار الخبر إلى أبي بكر الصديق، فركب فرسه، قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: الله المستعان، وكان رجلاً رشيداً عاقلاً فصيحاً حكيماً، ولذلك اختاره عليه الصلاة والسلام ليكون رجل الساعة -ساعة الصفر ليكون الخليفة بعده- فأتى وإذا بسكك المدينة مطمورة بالأوادم، وإذا الأطفال والنساء يموجون كالغمام حول المسجد؛ فسكت الناس بعصاه، ولم يتكلم بكلمة، وأخذ يستغفر ويسبح في ثبات، وشق الصفوف على فرسه، ثم نزل وهبط من على الفرس، ودخل البيت ففتحه، وأتى إلى الجثمان الشريف إلى الوجه الطاهر إلى البدن العامر؛ فكشف الغطاء عن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم بكى، وقال: [[ما أطيبك حياً، وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي قد كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]] ثم قبله ودموعه تخر من على لحيته إلى جبين محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يمسح الدموع، يمسح الدموع بيده ويقبل مكان الدموع، ثم يخرج إلى الناس، وعمر يتكلم وهو هائجٌ كالأسد، قال: اسكت يا عمر! اسكت يا عمر! اسكت يا عمر!
فدلف أبو بكر بعصاه، وتوكأ عليها، وقال: [[أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]] فسقط عمر من على المنبر على وجهه، علم أنه مات! وأتوا بالماء فرشوا عمر على رأسه، فقام ودموعه تنهار على لحيته، ثم أخذ أبو بكر يتحدث، ويقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ثم دعا بعد ذلك، وذهب بهدوء، وسكت الناس، ورجعت لهم السكينة، وهدأت الضمائر، وأخبرهم أبو بكر أن هناك رباً فوق سبع سماوات لم يمت، وأنه حيٌ قيومٌ، وأنه هو الذي يعُبد، أما الناس فيموتون ويولدون، ويغنون ويفتقرون، ويذهبون ويأتون، ومحمد عليه الصلاة والسلام من هذا البشر الذي كتب الله عليه الموت.