واستمر به المرض عليه الصلاة والسلام، وكان آخر لقاء جماهيري مع الصحابة، هكذا يعنونون له أهل السير من المحدثين: خرج عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، وقال لـ علي بن أبي طالب، وللفضل بن العباس، وللعباس: احملاني إلى الناس، فاتكأ عليهما وهو منصوب الرأس بعمامته، فجلس على المنبر أمام الناس، نظروا إليه ونظر إليهم، واشتد البكاء، وقام بجسده الشريف يتوكأ على خشب المنبر، وقال: أيها الناس: اللهم من ضربته، أو شتمته، أو لعنته، أو آذيته، فاجعلها رحمةً عندك له.
أيها الناس: من أخذت من ماله، فليقتص من مالي، ومن ضربت جسمه، فهذا جسمي فليقتص مني اليوم قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، فوقف عكاشة بن محصن الأسدي أمام الناس، فقال: يا رسول الله! ما دام أنك طلبت القصاص فأريد أن أقتص منك! قال: وما ذاك؟! قال: يوم كنا يوم بدرٍ وأنت تسوي الصفوف طعنتني بعصا كانت في يدك في خاصرتي، أريد أن أقتص منك اليوم، فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا فيَّ القصاص.
فداً لك من يقصر عن مداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
من هو الذي يقف أمام الناس، وهو زعيم الدنيا، فيعرض جسمه للضرب وللقصاص من الرعية، فقال عليه الصلاة والسلام: لا، بل يقتص مني، فأرسلوا للعصا التي كانت معه في بدر فأتي بها، ورفعها عكاشة في يده، وارتفع صوت البكاء في المسجد! أصحابي يضرب جسم النبي عليه الصلاة والسلام في مرض الموت؟! فألقى عكاشة العصا من يده، ثم تقدم فضم الجسم الشريف، ومرغ شيبته في الجسم الطاهر، وبكى بكاءً، وهو يقول: جسمي لجسمك الفداء، ونزل عليه الصلاة والسلام والدموع من كل تحفه، في أحرج ساعة مرت بالأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويدخل بيته قبل الموت بيومين، ويشتد عليه المرض عليه الصلاة والسلام، ويوصي الناس بتبليغ دينه للناس: {بلغوا عني ولو آية نضَّر الله امرأً سمع مني مقالة، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مُبلِّغ أوعى من سامع}.