الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً, وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً, وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراًَ ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد ومعلم الرسالة وأستاذ العقيدة.
إبراهيم خليل الرحمن الذي نشر عقيدة التوحيد في الأرض, مرّ يوماً من الأيام على ساحل البحر فرأى جثة حيوانٍ ميت قد ألقاه البحر بالساحل, وهذه الجثة تأتيها السباع فتأكل منها والطيور تنهش منها, فوقف عليها متعجباً وهو يقول في نفسه: كيف يعيدها الله يوم القيامة وقد أكلتها السباع والطيور؟ كيف يعيد الله هذه الجثة وقد تشتتت في بطون السباع وفي حواصل الطير؟
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] فكلم ربه وناداه وسأله أن يريه كيف تقوم عملية الإحياء وعملية الموت؟! والله هو الذي يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2].
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] فقال الله له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] أما آمنت إلى اليوم؟ أما تيقنت أن الله يبعث من في القبور؟ أما علمت أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ينشر الناس ليوم النشور؟
{قَالَ بَلَى}: بلى يا رب آمنت وأسلمت وتيقنت: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] سبحان الله!
في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {نحن أحق بالشك من إبراهيم} معنى ذلك: لو كان إبراهيم يشك لكنا نحن أضعف وأولى أن نشك في قدرة الله، ولكن إبراهيم عليه السلام لا يشك: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] أي: لأزداد يقيناً إلى يقيني وإيماناً إلى إيماني, فليس الخبر كالمعاينة: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
قال الله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] أي: خذ أربعة أنواع من الطير، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [حمام؛ ودجاج؛ وأوز؛ وطائر من عنقاء مغرب] أو كما قال, ولا يهمنا تعداد الطيور؛ لكن يهمنا الشاهد والدلالة في الآية, فأخذ أربعة من الطيور قال تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] أي: قطعهن ومزقهن, فقطع رءوسها, وفصّل أرجلها, وبتّك أكتافها وأيديها, ونتف ريشها, ثم خلط الأربعة, قال الله له: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة:260] فأخذ كل مجموعة من هذا اللحم والعظام والريش والدم فجعله ووزعه على أربعة جبال, ثم نزل في الوادي.
قال الله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة:260] فلما نزل قال: تعالي أيتها الطير بإذن الله, فبعث الله الأرواح فيها, وكانت رءوس الطير بين يديه, فأقبل الريش والعظم واللحم من كل طائر يدخل إلى رأسه لا يغلط في رأسٍ غير رأسه, فلما تركبت أجسامها في رءوسها فرفرت وطارت وأصبحت تأخذ مجالها في الجو, قال إبراهيم عليه السلام: أعلم أن الله على كل شيء قدير، قال تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
فيا من شك في قدرة الله: ويا من شك في البعث والنشور! ترقب يوم يبعث الله الأولين والآخرين, يوم يناديهم في يوم لا ريب فيه, يوم يسمعون الداعي لا عوج له, فاعمل لذاك اليوم، وتزين ليوم العرض على الله, والبس لباساً ليس كلباسنا اليوم؛ فوالله! لا تجزئ ألبستنا إن لم تكن من تقوى, واستعد بحسنات وبأعمال صالحات فإنك راحل!
إن بعد الحياة موتاً عظيماً يستعيذ الجدود منه الجدود
فاستعد لذاك البعث, وترقبه وكأنه في غد, واشكُ حالك إلى الله, وجدد توبة صادقة إلى الحي القيوم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يوم ينادي الله الخلائق وهم حفاة عراة غرلاً, وقد وضع السماوات مطويات بيمينه والأرض باليد الأخرى, فهزهن ونادى: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟
فنسأل الله أن ينجينا وإياكم في ذاك اليوم, ونسأله أن يبيض وجوهنا ووجوهكم ذاك اليوم, ونسأل الله ألا يجعلنا من أهل الفضائح والنكبات وأهل البوار والخسار.
عباد الله! صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه, فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة واحدة؛ صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد, وبلغه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين, وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين, اللهم وحد صفوفهم, اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق, أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا, ونسألك القصد في الفقر والغنى, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين, اللهم ردهم إليك رداً جميلاً, اللهم كفر عنهم سيئاتهم, وأصلح بالهم, وأخرجهم من الظلمات إلى النور, واهدهم سبل السلام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.