ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في أشرف المواقف بالعبودية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وقال أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
وأحد الصحابة الشباب الذين عاشوا الدعوة الإسلامية مع الرسول عليه الصلاة والسلام، يأتي زملاؤه فيطلبون الرسول صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيهم إلا هو ما مد يده، فيقول صلى الله عليه وسلم: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أناجيك يا رسول الله، فيذهب معه صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو يا رسول الله! قال: {فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة} رواه مسلم.
فالعبودية معناها: أن تصدق العبادة مع الله، وأن تتعب هذا الجسم في مرضاة الله، فإن الدرجات العلا لا تنال إلا بإتعاب الأجسام:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن غرور المال أحزان
إذا علمت أولئك، فهذا شيء من سير السلف الصالح أو شيء من أخبارهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: سير الرجال أحب إلينا من كثير من الفقه، لأنها تربية صلة بأولئك الجيل، وامتداد لتلك الدعوة الخالدة التي تركها صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة إذا جلسوا في آخر عهدهم يتذاكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أبي بكر وعمر، يقول ابن مسعود: [[إذا ذكر الصالحون فحي هلاً بـ عمر]] فحي هلا بأولئك الأخيار الأبرار الذين عشنا معهم لحظات نسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، وأن يجعلنا من الجلاس والسمار معهم كما سمرنا مع حديثهم في هذه الجلسة:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] لقد كان في قصصهم عبرة، ولقد كان في مسيرتهم منهج، ولقد كان في دعوتهم إلهام، ولقد كان في كلامهم حرارة، ولقد كانت في أفعالهم صدق، فهل من صادق ومتوجه؟ وهل من منيب وتائب؟ وهل من مستغل لهذه الليالي، ليالي الخلود، والمغفرة، والتوبة، والإقبال على الله عز وجل، وقبل أن أنتهي أدعوكم ونفسي إلى أن نستمر في مسيرة التوبة، ولا نري الله من أنفسنا في رمضان عباداً مقبلين وفي غير رمضان مدبرين فارين من الله، فعجباً للعبد كيف يلج باب التوبة فإذا انتهى مراده وخاطره فر من الله؟! والله لا يفر منه وإنما يفر إليه:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم مجتهداً فلا تصيره أيضاً شهر عصيان