يقول أحد الصحابة:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجعٍ يعلى بخضر المطارفِ
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فجٍ من الأرض خائفِ
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
ما معنى الأبيات؟
يقول: يا رب! إذا حانت وفاتي فلا تمتني على الفراش، ولكن اقتلني في سبيلك واملأ بطون الطير والسباع من لحمي دمي حتى ألقاك شهيداً.
وذكر أهل السير -كما ذكره ابن إسحاق وغيره في أسانيد جيدة- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قال: [[لما التقينا يوم أحد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقاتل المشركين قال لي عبد الله بن جحش: يا سعد! تعال ندعو الله هذا اليوم أن ينصرنا، قال: فملت أنا وإياه أمام هضبة -أكمة كبيرة أو صغيرة- قال: فلما أكملنا دعوت الله بالنصر, فتقدم عبد الله بن جحش واستقبل القبلة، قال: اللهم إنك تعلم أنني أحبك, اللهم إذا التقينا بالأعداء فلاقِ بيني وبين عدوٍ شديد حرجه، قوي بأسه، فيقتلني فيك، فإذا قتلني بقر بطني, وجذع أنفي، وقطع أذني، وفقع عيني، فإذا لقيتك يوم القيامة قلت: يا عبد الله! لم صنع بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب! قال سعد بن أبي وقاص: فالتقينا وانتهت المعركة, ومررت على القتلى فوجدت عبد الله بن جحش قد قتل وبقر بطنه، وجذع أنفه، وفقئت عيناه، وقطعت أذناه، قال سعيد بن المسيب -أحد الرواة-: أسأل الله أن يلبي له ما سأل]].
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده, لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} قال ابن كثير: فأعطاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الشهادة مع النبوة، فله منزلة الشهادة فإنه مات شهيداً على القول الصحيح؛ لأنه أكل لحماً مسموماً وبقي سنة يتعاوده هذا السم- سمه اليهود عليهم لعنة الله فمات من أثر ذاك السم.
والشهادة والموت في سبيل الله؛ ما كانت تتردد على أسماعنا, فكان كثير من الناس يموتون لكن على الفرش, والمسلمون الأوائل كانوا يرون أنه عيب أن يموت الإنسان على فراشه، ويرون كما يقول عبد الله بن الزبير: [[إنا لا نموت حبجاً أي: تخمة، إنا نموت تحت صقع السيوف وضرب الرماح]] فأكبر ثمرة لهذا النصر أن نستثمر طلب الشهادة من الله عز وجل أن يرزقنا الشهادة: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه} رواه مسلم.
والعجيب أن هناك أناساً قد يموتون في الجبهة وبين الصفين! والله أعلم بنيتهم، وهذا حديث عند أحمد في المسند مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم يقول: {رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته} لماذا؟!
لأن الله هو المطلع على النيات: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقد صح أن أحد الناس اسمه قزمان خرج مع المسلمين إلى أحد يقاتل، فما ترك للمشركين شاذة ولا فاذة إلا ضربها، وفي آخر المعركة قتل، قال الصحابة: {هنيئاً له الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: كلا، والذي نفسي بيده! إنه في النار، قالوا: يا رسول الله! كيف؟! فسألوا أهله كيف قتل؟! قال أهله: أصابته جراحة في رأسه فما صبر فنحر نفسه} وفي غزوة أخرى -والحديث صحيح- وقتل أحد الناس فقالوا: {هنيئاً له الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: كلا والذي نفسي بيده! إن البردة التي غلها لتتلظى عليه في النار} فوجدوه قد غل بردة لا تساوي أربعة دراهم.
ألا بلغ الله الحمى من يريدها وبلغ أكناف الحمى من يريدها
فالله أعلم من يقاتل لتكون كلمة لا إله إلا الله هي العليا؟ والله أعلم من يقاتل لترتفع إياك نعبد وإياك نستعين؟ وفي الصحيح: {أول ما تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: منهم رجل شجاع مقدام، يقول الله عز وجل: ألم أمنحك شجاعة؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا فعلت؟ قال: قاتلت فيك وقتلت، قال الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت ويقول الله: إنما قاتلت ليقال: شجاع وقد قيل خذوه إلى النار، فيأخذونه فيدهده على وجهه في النار} والمقصود هنا أن علينا أن نربي أطفالنا وقلوبنا وبيوتنا ورجالنا على حب الشهادة.
وأكثر ما ذهب شباب الأمة في حوادث السيارات، أو في غرف الباطنية من كثرة المأكولات والمشروبات والمطعومات، وأصبحنا لا نسمع قتلى، نحن الذين نعلّم الناس كيف نقتل في سبيل الله عز وجل.
فهذا عبد الله بن عمرو الأنصاري -وقصته تتكرر وسوف تتكرر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- قبل المعركة سأل الله أن يقتل شهيداً فقتل لكن بعد ماذا؟! بعد قتال يوم كامل في أحد , فما سقط حتى ضرب ثمانين ضربة من ضربات السيف والرمح, فأتى ابنه يبكي وأبوه مسجى، فقال صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! ابك أولا تبكِ، والذي نفسي بيده! ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال تمن: قال أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون, فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} فهذه أعظم الثمرات, وهي أن نقدم أبناءنا ونعلمهم الشهادة، وأن يسأل الإنسان الله الشهادة في سبيله علّ الله أن يرزقه شهادة تمحو ذنوبه.