المنعم عليهم هم الذين أنعم الله عليهم بالهداية لا بالمال, والنعمة في القرآن قسمان: نَعْمة ونِعمة.
فالنّعمَة: يشترك فيها المؤمن والكافر, فمثلاً: القصر نعمة يسكنه الخواجة والمسلم, والسيارة يركبها الخواجة والمسلم, الثوب يلبسه هذا وهذا! التفاح يأكله هذا وهذا , فهي دنيا يعطيها الله من يشاء, أما الإيمان فلا يعطيه الله إلا من يحب.
دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه حظيرة فيها إبل الصدقة, وإذا بإبل الصدقة كأنها الجوخ الأحمر من النعمة والسمن وضخامة الأجسام, فقال مولاه أسلم: صدق الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال عمر: [[كذبت قاتلك الله! ليست هذه الرحمة, فضل الله أن تعمل بنور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تكف عن المعصية على نور من الله تخاف عقاب الله]] أو كما قال, هذه هي النعمة.
ليست السعادة في جمع الأموال, وسكن الدور, ورفع القصور, وأخذ المرطبات والمشهيات والأكلات والسيارات, لا والله!!
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقا غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
قال معاوية بن أبي سفيان لأحد العباد: [[تدري ما هي السعادة؟ قال: لا, قال: رجل لا يعرفنا ولا نعرفه, أحسن عبادة ربه, له زوجة تطيعه, وله دابة تحمله, وله بيت يسكن فيه]].
وقال معاوية: [[أكلت كل لذيذ, وشربت كل مشروب -يعني من الحلال- ولبست كل لباس فما وجدت كالتقوى]].
وقيل لـ هارون الرشيد وقيل غيره: كيف وجدت الحياة؟ قال: وجدتها كبيت له بابان, دخلت من هذا وخرجت من هذا, وقيل للإمام أحمد: كيف وجدت الشباب؟ قال: والله ما وصفت الشباب إلا بشيء كان في كمي ثم سقط مني.
وذكروا عن عابد من بني إسرائيل أنه عبد الله أربعين سنة, لا يفتر من صلاة ولا ذكر ولا دعاء, ثم أتاه زيغ من الشيطان فانحرف, فبقي في المعصية أربعين سنة, ثم نظر إلى صورته في المرآة فإذا هو قد أصبح شيبة كبيراً في السن؛ فصاح وقال: يا رب عبدتك أربعين, وعصيتك أربعين, هل إذا عدت إليك تقبلني؟ فناداه الله: أطعتنا فقربناك, وعصيتنا فأمهلناك, فإذا عدت إلينا أحببناك, فقال: أشهدك يا رب إني عدت إليك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أوْلى بذا كرما قد شبت في الرق فاعتقني من النارِ
تولى هشام بن عبد الملك الخلافة فأتي له بكل مطعوم ومشروب وملذوذ, كانت الجواري على رأسه, وكان له الخدم والحاشية والوزراء, فقال: والله من يوم أن توليتُ الخلافة ما مرّ بي يوم وسلمت من الهم والغم فيه, وقرر ذات يوم أن يختفي في حديقة قصره لينظر هل يأتيه خبر يزعجه من الصباح إلى المساء, وبينما هو في البستان إذا بسهم قد أتى وعليه ريش وفيه دم, فرفع السهم والريش وإذا رجل قد قتل وضرب السهم داخل الحديقة, قال: ولا يوم واحد!! -أي: لا أسلم ولو يوماً واحداً- ومن أراد أن يبحث عن هذه الأخبار فليبحث عنها في كتاب التذكرة لـ عبد الحق الإشبيلي ليرى العجب العجاب.
قال إبراهيم بن أدهم: والله لو يعلم الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف, أتت سكرات الموت عبد الملك بن مروان , فبكى وأبكى الناس, ونزل فسمع غسالاً يغسل -والغسال في واد حول قصر عبد الملك لا يعلم أن عبد الملك بن مروان مات, ومن أخبره؟ لم يقرأ الصحف ولا سمع الأخبار- والغسال هذا ينشد من راحته واطمئنانه, يعبد الله، له ما يكفيه وليس له هم ولا غم ولا ديون ولا رعية ولا مسئولية, فأخذ يستمر في النشيد, فسمع عبد الملك بن مروان ذلك فقال: يا ليتني كنت غسالاً, قال سعيد بن المسيب لما سمع هذه الكلمة: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت ولا نفر إليهم.
وقال المعتصم لما حضرته الوفاة: -ذكرها عبد الحق الإشبيلي - أنزلوني من على السرير, هل أموت اليوم؟ قالوا: نعم تموت, ثبت شرعاً أنه يموت, شهد عليه أربعة بالموت, فظن أنه سوف يأتيه خبر قبل أن يموت, قال: أنا شاب أأموت اليوم؟! قالوا: نعم تموت, قال: والله لو كنت لو أعلم أني أموت هذا اليوم ما فعلت ما فعلته من أمور, قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
دخل سالم بن عبد الله الحرم، فلقيه هشام بن عبد الملك فقال: يا سالم أتريد مالاً؟ أتريد حاجة؟ قال: أما تستحي من الله؟ قال: ولم؟ قال: تقول هذا الكلام وأنا في بيت الله؟ فلما خرج من الحرم عرض له هشام قال: أتريد حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا, قال: أما الدنيا فوالله ما سألتها من الذي يملكها فكيف أسألها منك! ومما يقول محمد إقبال:
ومما زادني شرفاً وفخراً كدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
هذا هو الشرف, أن تكون عبداً لله, لأن الذي لا يكون عبداً لله، يكون عبداً لوظيفته ومنصبه، وحذائه وسياراته، ودرهمه وديناره.
ذكر ابن كثير أهمية جانب الاعتزاز بالله عز وجل والركون إليه والرضا به والتشرف بخدمته، يقول: طاوس بن كيسان العالم النحرير, والمحدث الكبير, اليمني, كان مولىً من الموالي لكن رفعه الله بالتقوى والعلم والعمل الصالح، يقول: أتيت الحرم لأعتمر فطفت وصليت ركعتين, ثم جلست عند المقام أنظر إلى المعتمرين والطائفين والركع السجود, قال: وبينما أنا جالس في المقام، وإذا بجلبة السلاح والحراب والسيوف والرماح, فالتفت فإذا هو الحجاج بن يوسف!! فقال: فجلس ينتظر معه خدمه وحواشيه، قال: وإذا بأعرابي أتى من اليمن يطوف وعليه إحرام -وهذا الأعرابي لا يملك من الدنيا شيئاً, لكنه يملك قلباً فيه توحيد وعمل صالح وذكر وعبادة- فهذا الأعرابي بعد أن طاف أراد أن يدخل الصفوف، فتعلقت حربة من حراب الحجاج في قميصه فوقعت على الحجاج , فمسكه الحجاج , قال الحجاج: من أين أنت؟ -وطاوس يروي القصة- قال: من أهل اليمن -وعرف الأعرابي الحجاج , وظن الحجاج أنه لم يعرفه- قال: كيف تركت أخي محمداً؟ -أخوه محمد بن يوسف هو ظالم غاشم مثل الحجاج , لكن أقل منه بدرجة, قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]- قال: كيف تركت أخي محمداً وأهل اليمن؟ قال: تركته سميناً بطيناً, -يظن أنه سوف يقول: إنه يقوم الليل ويصوم النهار, قال: لست أسألك عن صحته لكن أسالك عن عدله؟ قال: تركته غشوماً ظلوماً, قال: أما تدري أني أنا الحجاج؟! قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟! قال طاوس: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت من هذه الكلمة, قال: فأطلقه الحجاج ولم يقل له شيئاً, فبقيت أنظر إليه بين المعتمرين وهو يطوف ويدعو: أي: إن كان أنت أخوه تحميه وتمنعه وتدافع عنه فـ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].