إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب اجتماع الناس, ويحذر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الفرقة, ويد الله مع الجماعة, قال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وأمرنا بصلاة الجماعة, وهوّن عليه الصلاة والسلام من شأن صلاة المنفرد وحده, وذكر أن صلاة الجماعة تفوق على صلاة المنفرد بسبع وعشرين, والصلاة خلف الصف قال فيها صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمنفرد خلف الصف}.
فقول المصلين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: جميعاً كلنا لك عبيد, أما إذا قلت: إيّاك أعبد, كأن فيها أنانية وانحياز, وكأن فيها انفراد, {وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية} وإذا خلا العبد خلا به الشيطان وذم عليه الصلاة والسلام في الإنفراد، وفي حديث في سنده نظر: {يا ثوبان إيّاك والكفور -أي: السكن في القرى- فإن ساكن الكفور كساكن القبور} , قال الإمام أحمد: [[الكفور هي القرى, لأن فيها وحشة, وبعد عن مجالس الخير والذكر, وعن العون على الطاعة]] ولذلك تجد البدو غالباً من أجهل الناس في الأحكام, قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:97].
فإذا عُلم هذا فالله يحب الجمع, ولذلك كانت صلاة الجمعة ويوم عرفة من أفضل المواسم للدعاء وذلك لاجتماع الناس, وفي الحديث: {ما رئي الشيطان في يوم أغيظ ولا أدحر من يوم عرفة} , وابن القيم يقرر أن القلوب إذا اجتمعت كان ذلك سبباً من أسباب استجابة الدعاء, فاغتنم اجتماع الناس, ويكفي هذا الشعار: إيّاك نعبد أي: كلنا يا ربنا, قال أبو تمام في اجتماع المسلمين:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ
وصح من حديث جابر قال: {كنا إذا نزلنا في غزوة تفرقنا تحت الشجر وتركنا أكبر شجرة للرسول صلى الله عليه وسلم, فأنذرنا عليه الصلاة والسلام وقال: ما لكم! اجتمعوا فكنا نجتمع حتى لو طرح البساط علينا لكفانا}.
وفي حديث أنه عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فوجدهم حلقاً, حلقة هنا, وحلقة هنا, وحلقة هناك, قال: {ما لي أراكم عضين -أو عزين- اجتمعوا} فجمعهم عليه الصلاة والسلام، وخرج أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي مزقت همته وعزيمته والعمل الصالح بخنجر الغدر.
مولى المغيرة لا جادتك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها
مزقت كل إهاب حشوه همم في ذمة الله قاصيها ودانيها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
فدخل المسجد فوجدهم فرقاً، فجمعهم وراء أبي بن كعب سيد القراء.
وأقف قليلاً مع سيد القراء, وقد ذكرته في مناسبات لكن لا بأس بذكره هنا:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوعُ
أبي بن كعب يقول عنه أهل التراجم: كان أبيض اللحية, أبيض الرأس من الشيب, أبيض الوجه, أبيض الثياب, أبيض القلب, {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] , سبب بياض لحيته ورأسه أن الحمى اشتعلت في جسمه ثلاثين سنة, لكنه لم يتعطل عن جهاد ولا فريضة ولا عن حج, كان إذا اقترب منه الشخص وجد الحرارة, وكان لا ينام من الليل إلا القليل؛ لأن من بعد صلاة العشاء كانت تزوره الحمى, والحمى فيها حياء تستحي لا تزوره إلا في الليل, كما يقول المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
فكان يسهر إلى الفجر, وكان عمر ينتبه له إذا ورد, وقال له أحد أهل العراق: من هذا الذي تنظر إليه إذا تكلمت يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: ثكلتك أمك, هذا سيد القراء أبي بن كعب.
فجمعهم عمر وراءه في صلاة التراويح, فلما مر عمر وهو يقرأ بهم وهم يتباكون وقد استقاموا على العصي من طول قيامه, تبسم عمر وقال: [[نعمة البدعة هذه]] يعني البدعة اللغوية وليست البدعة الشرعية, فإن لها أصلاً في السنة, فإن الذي سنها هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي السير أن عمر مر وأبي يقرأ في التراويح, فسمع أبياً وقد ارتفع صوته بالبكاء في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] وكان عمر في جولة, فلماذا كان عمر يتجول؟ أيرتاح من صلاة التراويح؟ لا والله! لكنه كان يتفقد الأرامل والمساكين والأيتام والخصومة, ويرى حال المدينة ,كيف تنام العاصمة؟ أتنام على هدوء وسكون؟ أم هي قلقة؟! فلما سمع رمى العصا من يديه وانطرح على الأرض يبكي, وحُمِلَ على أكتاف الرجال وبقي شهراً مريضاً من هذه الآية رضي الله عنه وأرضاه.
فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل: إياك أعبد؛ لأن هذه فيها أنانية وانفراد, والله يحب الجمع، ويد الله مع الجماعة.