قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ما هو الحق؟ وما هو الصبر؟ وهل بينهما عموم وخصوص؟ أوليس الحق صبراً والصبر حقاً.
أما الحق فهو الذي أتى به رسولنا صلى الله عليه وسلم, فالكتاب والسنة هما الحق, وتواصوا به أي: تعلموه وعلموه الناس, وتواصوا به: تفقهوا به, وعلم بعضهم بعضاً هذا الحق, فالحق كله ما أتى به صلى الله عليه وسلم, وكل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الحق, وأما ما سوى ما أتى به صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أمرين:
إما حق, فهو في شرعه عليه الصلاة والسلام.
وإما باطل فلا نريده.
وأي أمر لا يعرف أنه حق أو باطل حتى يعرض على الكتاب والسنة, قال مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام" , وإنما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الحق لتكون كلمة جامعة لكل خير, ورشد وهدى, فكل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم حق, فلا يجوز للإنسان أن يوجب على الناس شيئاً إلا ما أوجب الله ورسوله, ولا أن يستحب لهم إلا ما استحبه الله ورسوله, ولا يجوز أن يحرم عليهم إلا ما حرم الله ورسوله, ولا أن يكره لهم إلا ما كره الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولا أن يبيح لهم إلا ما أباح الله ورسوله, فلا بد من هذه القضايا الخمس.
فكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يحتج به, ولا يحتج له, وكلام غير الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يحتج له ولا يحتج به, فهذه قواعد يقررها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، وهي قواعد تكتب بماء الذهب وتحفظ, فهذا هو الحق: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3].
والحق لا يحمل إلا بصبر, والحق لا يبلغ إلا بصبر, والصبر لا بد له من حق, فاجتمعت الرسالة التي هي حق مع وسيلتها وهو الصبر, حتى تبلغ للناس.
إذاً: من هم المبلغون؟ إنهم المؤمنون الذين عملوا الصالحات, وماذا يبلغون؟ يبلغون الحق , بأي وسيلة؟ بالصبر.
والصبر ثلاثة أقسام:
صبر على طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وصبر عن المعاصي.
وصبر على المصائب.
فأما الصبر على الطاعات فهو أشرفها وهو القول الصحيح الذي يختاره كثير من أهل العلم كالشيخين: ابن تيمية وابن القيم , فالصبر على الطاعات أشرف من الصبر عن المعاصي, وأشرف من الصبر على المصائب, ويجعل ابن تيمية المقصود من الدين إقامة الشعائر والفرائض, فإن من صلى وشرب الخمر خير ممن ترك الخمر ولم يصلِ, مع العلم أن العبد الطائع لله هو الذي يصلي ولا يشرب الخمر, لأن الخمر من الكبائر وحق على الله أن من شرب الخمر ولم يتب منها أن يسقيه الله من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار والعياذ بالله.
والصبر على الطاعات: أن تؤديها في أوقاتها بخشوعها وفرائضها وسننها, كالصبر على الصلاة, فهي تحتاج إلى صبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
والصبر عن المعاصي: أن تكف عنها, واصبر عنها وما صبرك إلا بالله, طلباً في ثواب الله وخوفاً من عقابه, لأن بعض الناس يكف عن المعاصي حفظاً لجاهه, أو خوفاً من السلطة, وهذا ليس مأجوراً.
والصبر على المصائب: هي أن تصبر على قضاء الله وقدره فيما يصيبك, وتقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
فهذه بعض معالم سورة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لنا ولكم, وأن يرحمنا وإياكم, وأن يتولانا وإياكم, وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل, وأن يخرجنا وإياكم من الظلمات إلى النور, وأن يوفقنا إلى اتباع سنة محمد عليه الصلاة والسلام, وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه, ولا يجعل فينا شقياً ولا محروماً, وأن يتولانا وإياكم ولاية عامة وخاصة.