وقد أقسم الله به لعظمته, فإنه عمرك, وحياتك, وهو دقائقك وثوانيك, وهذا الزمن عظيم والله عز وجل يحاسب الناس يوم القيامة على الزمن والعمر فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116].
والصلتان السعدي الشاعر المصقع ذكر له الجاحظ في كتاب الحيوان أبياتاً في الزمن والعصر, يقول:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشي
فهو يقول: أخذ الملوك والمملوكين والرؤساء والمرءوسين هذا الصباح وهذا العشي.
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشي
إذا ليلة هرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
فهل سألتم أهل القبور: هل أكملوا حوائجهم في الدنيا؟
منهم من دعا لوليمة فمات قبل أن يحضر ضيوفه, ومنهم من عقد على امرأة ولم يبن بها, ومنهم من دخل في دراسة ولم يكملها, ومنهم من عمر عمارة ولم يسكنها، فماتت معهم أغراضهم في نفوسهم.
وقد قرأت هذا اليوم لخليفة عباسي اسمه الظاهر , كان سفاكاً ذبح من العلماء والوزراء وفعل ما الله به عليم, ومات وعمره ست وأربعون سنة، أصابه خوانيق في حنجرته, فأخذ يصيح ويخور مثل الثور ويقول:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار
فهو يقول: ما أقصر عمري!
والخليفة المعتصم لما حضرته الوفاة تقلب وبكى وقال:"والله لو أعلم أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت من الذنوب والخطايا".
فبعض الناس يظن أن الموت لا يدرك الشباب, فالله يقرر الزمن لأهله, فيقول: {والعصر} [العصر:1] فهذا الزمن الذي نعيشه هو حياتنا وهو على أحد ضربين: حياة السعداء وهي في طاعة الله, وحياة الأشقياء وهي في معصية الله, ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}.
فتجد أكثر الناس منكوبين في الوقت, يجلسون الجلسات الطويلة لا استغفار أو قرآن, ولا ذكر أو توبة, ولا علم أو مدارسة, فيمر هذا الوقت ويحاسبون عليه عند الواحد الأحد, بل بعضهم جعل الوقت حرباً لله عز وجل, فهذا هو العصر, وهو الزمن الذي نعيشه.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
وعند الترمذي بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -وذكر منها-: وعمره فيما أبلاه} فيسأله الله: أما أمهلتك؟ أما خولتك؟ أما تركتك؟ فيقول: بلى يا رب, فيقول: ماذا فعلت؟ فيسأله عن العمر, وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] ومعناه عند أهل التفسير: أو لم نتركم زمناً يمكنكم أن تتذكروا فيه فما تذكرتم؟!
وأما النذير, فقال ابن عباس: "الشيب" وما أحسن هذا من تفسير! وغيره قال هذا.
فإن هذا الشيب خطر وإنذار رهيب، فإذا شاب رأسك وشابت لحيتك؛ فاعلم أنه نذير لك بالقدوم على الله:
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
أي: يقبح بالشاب أن يلهو, وأقبح منه شيخ كبير يلهو, ولذلك تجد بعض الشيوخ الكبار في الستين والسبعين كالسفيه والطفل, برنامجه اليومي كبرنامج الطفل تماماً, تجده في المنتديات العامة والمقاهي والأرصفة.
يتحدث بكلام فارغ، وقد أصبحت رجله في حفرة القبر.
قال سفيان الثوري: "حق على من بلغ ستين سنة أن يلبس كفناً" ويقول صلى الله عليه وسلم: {أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين} فالستون والسبعون معترك المنايا, فأكثر من يموت هم أصحاب الستين إلى السبعين وقليل من يجوزها أو يتعداها: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً} [الأحقاف:15] فلما بلغ الأربعين عاد, ولا يعني ذلك ألا يعود الإنسان حتى يبلغ الأربعين, فيسيئ ويعصي ويقول: حتى أبلغ الأربعين ثم أتوب، فإن كثيراً من الناس لم يبلغوا الأربعين, بل عليه من سن التمييز أن يبدأ مع الله عز وجل, حاداً لحدوده محترماً لحرماته, عامراً بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمره وحياته.
فالوقت هو النعمة التي تذهب من الناس كثيراً ولا يفكرون فيها إلا في سكرات الموت.
وهذا الشيب -على ذكره- عجيب, يقول أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
قالوا: ما فعل المشيب يا أبا العتاهية؟
قال: أحنى ظهري, وأذهب عني لذة الشراب والطعام, وملذة المنام.
فصاحب الثمانين والسبعين لا يتلذذ لا بطعام ولا بشراب ولا بمنام, وهو أمر معلوم من سير الناس.
{والعصر} [العصر:1] يقسم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالعصر, فيحلف بالزمن على شيء سوف يخبرهم به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, والله عز وجل يقسم بالأمور التي تتعلق بما بعدها.
فمثلاً: الضحى لما كان فيه لطف مع رسوله صلى الله عليه وسلم ورحمة, اختار وقت الضحى لأن فيه شيئاً من السداية والرعاية, وكذلك الفجر فيه تبلج الحق فأقسم به, ومثله تنزل الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي فيقسم بالنجم, فاسمع جواب القسم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:1 - 8] قالوا: فالنجم يدنو ويتدلى ويهوي, والملك يدنو ويتدلى ويهوي, فسبحان الذي أنزل كتابه, وأبدع كلامه وجعله معجزاً.