ومن أعظم الآيات التي تدل المؤمن على الإيمان وتزيده يقيناً مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة حين كان يحفر في الخندق مع سبعمائة، وبهم من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، يضع الحجرين عليه الصلاة والسلام على بطنه، فأتى جابر فرأى الجوع في وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام فأتى إلى امرأته في البيت فقال: أعندك طعام؟ قالت: عندي ما يقارب مُد شعير وعندنا هذه العناق، عناق لا تكفي إلا ثلاثة لأن ولد الماعز صغيرة.
فذبح جابر العناق، وقال لامرأته: اطحني هذا الشعير واصنعيه لنا طعاماً، ثم وضع جابر هذه العناق الصغيرة في قدر صغير من فخار، وقامت امرأته: تصنع الطعام، فقالت له امرأته: اذهب وادع النبي صلى الله عليه وسلم واثنين معه أو ثلاثة، قال: أفعل.
فأتى إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام في الخندق وقال: يارسول! الله تعال أنت واثنين أو ثلاثة معك، فقام عليه الصلاة والسلام فقال: يا أهل الخندق! إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحي هلاً بكم جميعاً، وهم سبعمائة، أما جابر فأسقط ما في يده ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أدري هل علم النبي صلى الله عليه وسلم بما أقول أم لا؟
فذهب قبل النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق ودخل إلى امرأته يضرب على رأسه، تقول: مالك؟ قال: قلت لرسول صلى الله عليه وسلم تأتي أنت واثنين أو ثلاثة، فنادى في أهل الخندق سبعمائة أو أكثر، وقال: يا أهل الخندق! إن جابر بن عبد الله صنع لكم طعاماً فحي هلاً بكم، فأقبلوا جميعاً، قالت: رسول الله أعلم بما يقول -وكانت عاقلة- فأتى صلى الله عليه وسلم ينظر إلى جابر وإلى امرأته ويتبسم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن في البيت تغيرات وخوفاً، فيقول صلى الله عليه وسلم: يا جابر! لا تنزل اللحم من على البرمة ولا تنزلوا طعامكم، ثم يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم على البرمة فينفث بريقه الطاهر الطيب المبارك -بأبي هو وأمي- ثم يأتي إلى الطعام فينفث فيه ويسمي ثم يقول: يا جابر! ادع الناس عشرة عشرة، فيدخل الناس عشرة عشرة فيأكلون أكلاً ذريعاً، أكل الجائع في عام القحط.
فلما انتهوا دعا النبي صلى الله عليه وسلم جابراً وجلس معه فقال جابر: جلست معه والله ما نقص منها لقمة واحدة، فيقول صلى الله عليه وسلم: أشهد أني رسول الله، يا جابر! كُل أنت وأهل بيتك ثم تصدق على جيرانكم من هذا الطعام.
قال: فتصدقنا على جيراننا في المدينة، فأمسوا على لحم، ومرق وطعام {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
في الغزوة يخرج عليه الصلاة والسلام فينتهي الماء فيقولون: عطشنا يا رسول الله! وهم ما يقارب ألفاً وخمسمائة مقاتل، وعند جابر ألف وأربعمائة عندهم خيول وإبل وبقر فيقول: هل أحد منكم عنده ماء فيأتي أعرابي بإداوة صغيرة فيها ماء، فيأتي صلى الله عليه وسلم بصحفة كبيرة، فيقول: صب عليَّ، فيسكب على أصابعه فيدعو الله فيثور من على أصابعه كالنهر، يقول أنس: يثور من أصابعه كالغيل، فتمتلئ الصحفة وتنثر في الأرض، فيأتي هذا فيملأ قربته ويذهب، ويأتي هذا ويسقي فرسه، ويشرب هذا، ويغتسل هذا، حتى ملئوا كل المخيم والجيش ماءً، فيقول: صلى الله عليه وسلم: أشهد أني رسول الله، فنقول له: نشهد أنك رسول الله {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
إنها العلامات التي أتى بها عليه الصلاة والسلام وعند مسلم عن جابر قال: {ذهبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في سفر، والذهاب معه هي أغلى لحظات المسلم أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأراد أن يقضي حاجته في الصحراء قال: يا جابر! تعال، فقام جابر معه، فذهبا إلى الصحراء بعيداً عن الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: يا جابر! اذهب إلى تلك الشجرة وقل لها يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي، فيذهب إلى الشجرة فيقول لها: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي -ومن أراد أن يتوسع في هذه فليراجع المجلد الثامن لـ ابن تيمية - فتأتي وتشق الأرض شقاً مع جابر، فتقف عند المصطفى فلما وقفت قال له: اذهب إلى تلك وقل لها تعالي، فيذهب جابر ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تعالي، فتأتي فيقضي النبي صلى الله عليه وسلم حاجته، ثم يقول: يا جابر! قل لهما اذهبا، فتذهب كل شجرة إلى مكانها حتى تعودا، يقول جابر وهو يروي الحديث للصحابة: والذي أعطاني بصري وأخذه لقد رأيتها تشق الأرض شقاً}.
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] نشهد أنك رسول الله، وأنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة.