أعرابي آخر يأتي وفي رأسه أمور الله أعلم بها؛ وساوس، فيجر الرسول- صلى الله عليه وسلم- من بردته، وكان عليه برد غليظ الحاشية نجراني، فيؤثر في جانبه وفي كتفه وفي عنق الرسول عليه الصلاة والسلام، فيلتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول الأعرابي بكلمة أقبح من الفعل: {أعطني يا محمد من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا أمك} وما الداعي لهذا الكلام؟ ولماذا هذا الجرح؟ ولماذا هذه الجفوة؟ ولو ألقي هذا الكلام على أحد العملاء وزعماء الضلالة والإلحاد لما رئي إلا بطون أرجلهم من على رءوس الناس.
فقام قال صلى الله عليه وسلم وتبسم إليه وضحك إليه، فقام الصحابة يريدون أن يلقنوه درساً، فقال- صلى الله عليه وسلم: دعوه ثم أخذه بيده فأعطاه من مال الله زبيباً وحباً وثياباً، فمن أراد الزبيب وجده، والحب أخذه، ومن أراد الإيمان واليقين والقرآن وطريق الله المستقيم كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجده، وبعد أن أعطاه- قال: أحسنت إليك قال: نعم.
فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خير الجزاء، قال: إذا خرجت فقل لأصحابي ذلك، فإنهم وجدوا في أنفسهم، فيخرج به صلى الله عليه وسلم، ويسأله أمامهم، قال: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرةٍ خير الجزاء، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويقول: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: مثلنا كرجلٍ كانت له دابة فرت منه فلحقها، فلما رآها الناس فرت لحقوها، فما زادت إلا فراراً، قال الرجل: يا أيها الناس! خلوا بيني وبين دابتي فأنا أعرف بها، فأخذ شيئاً من خضار الأرض وخشاش الأرض، فأشار للدابة فأتت وأكلت فأمسكها وقيدها، ولو تركتكم وهذا الأعرابي لضربتموه، ثم ارتد فدخل النار}.
عاد الأعرابي إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.
إنها الدعوة الرائدة! إنه الرفق واللين! وإن هذا الأصل الرابع من أعظم أصول التربية.
إن الجفاء والغلظة لا تكسبك إلا بغضاً وحقداً، وإن الرفق واللين يكسبك القلوب ويشتري لك الأرواح، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: {والله ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
ما أحسن البسمة! فيها السحر الحلال، قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
وفرق بين المتكبر الجافي الغليظ الذي لا يتبسم، وإذا تبسم كأنه يقطر عليك بالقطارة، أو كأنه ينفق عليك من دمه، أو كأنه يمن عليك بهذه البسمة، فلذلك يقول الشاعر في القسمين: الجافي الغليظ والمتبسم البشوش، يقول:
وجوههم من سواد الكبر عابسةٌ كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقومٍ إذا لاقيتهم عرضاً أعطوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري