في سيرة أبي بكر أن رجلاً قال لـ أبي بكر: والله يا أبا بكر! لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، قال أبو بكر: بل يدخل معك قبرك ولا يدخل معي، وصدق، فإن المسبوب لا يدخل معه السب بل يدخل السب مع الساب لا مع المسبوب.
فيظن هذا الجاهل أنه إذا سب أبو بكر الصديق المطهر فسوف يدخل سبه مع أبي بكر الصديق، في القبر، فقال أبو بكر: لا.
-فلم يرد عليه السب- وقال: بل يدخل معك أنت قبرك، أما أنا فلن يدخل قبري، وهذا هو الصحيح، فإن الكلمة العوراء الآثمة الجارحة تدخل مع الجارح الساب الشاتم، ولا تدخل مع المسبوب لحكمة الواحد الأحد.
وقال رجل لـ عمرو بن العاص: والله لأتفرغن لك -يريد أن يتهدده، يعني أتفرغ لك بالسب، والقتال والخصام- قال: إذاً تقع في الشغل.
يقول: إذاً لن تكون فارغاً، بل يشغلك الله بي، أما أنا فلن أتفرغ لك ولن أشغل نفسي بك، إنما أنت إذا أشغلت نفسك بي فقد أوقعت نفسك بالخصام والسباب وقد أوقعت نفسك في كارثة.
ويروي أهل الحديث أن عامراً الشعبي الذي قيل عنه أنه أشبه عمر بن الخطاب في جمعه للعلم، وكان من علماء التابعين، وقد قال عنه الحسن البصري: " قديم السلم، كثير الحلم، جم العلم، قام إليه رجل فقال: كذبت يا عامر! فقال عامر: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
أي: إن كنت صادقاً أني كاذب فغفر الله لي، لأني أخطأت، وإن كنت كاذباً أني لست بصادق فغفر الله لك، وهذا هو الحق، فماذا يقول الرجل بعد هذا؟ لأن من استطاع أن ينهي الخصام، وأن يجعل للصلح موضعاً، وألا يستعدي الناس خاصةً أهل الفضل والمنزلة والصدارة والمكانة؛ كان محسناً على نفسه وعلى الإسلام والمسلمين.
وفي سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً أن رجلاً زاحمه في منى، فالتفت الرجل إلى سالم وهو علامة التابعين وقال له: إني لأظنك رجل سوء، قال: [[ما عرفني إلا أنت]] يقول: قد أكون رجل سوء، وما عرفني إلا أنت، لأنه في نفسه يعتقد أن نفسه نفس سوء، فإن المؤمن يشعر بالتقصير ويلوم نفسه ويبكتها، والفاجر والمنافق يزكي نفسه أمام الناس، حتى رأيت أن سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه: [[قومي يا مأوى كل شر، قومي يا مأوى كل شر]] لأن النفس أمارة بالسوء، فيقول: إني لأظنك رجل سوء، قال: ما عرفني إلا أنت، وسكت ومر.
وقام رجلٌ في الحرم -وهذه ثابتة بأسانيد صحيحة- أمام ابن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن فسبه أمام الناس، وابن عباس ينكس رأسه، فهذا أعرابي جلف يسب علامة الدنيا فرفع ابن عباس رأسه وقال: [[أتسبني وفيَّ ثلاث خصال، قال الناس: ما هي يا بن عباس؟ قال: والله ما نزل القطر بأرضٍ إلا سررت وحمدت الله على ذلك، وليس لي بها ناقة ولا شاة]] يقول: ما سمعت بقطر المطر ينزل بأي أرض إلا وسررت به وهذا هو الإيمان، تسمع في الجنوب أو الشمال بمطر فتفرح، وهذه خصال المؤمنين.
[[قالوا: والثانية؟ قال: ولا سمعت بقاضٍ عادل إلا دعوت له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية]] لكن يفرح أن يكون قضاة المسلمين عدولاً.
[[قالوا: والثالثة؟ قال: ولا فهمت آيةً من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمونها كما أفهمها]].
وهذه المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رباهم أصلاً على سمع وبصر، وإلا فهم أمةٌ أمية خرجوا من الصحراء، لكن بناهم شيئاً فشيئاً ورصع مجدهم، واعتنى بهم صلى الله عليه وسلم حتى أخرجهم مثلاً أعلى وقدوات حسنة للناس.
وقالوا في المثل: من أين لك بأخيك كله؟! يقول: أتريد مهذباً كله؟ لا.
خذ بعضه، خذ نصفه، خذ ثلثين، خذ ثلثه، يقول: من أين لك بأخ كله؟ وأنا أسأل نفسي وإخواني: هل تجدون في المجتمع المسلم مهما بلغ هذا الشخص من الرقي والمثل العليا وحسن الخلق أن يكون كامل لا حيف فيه ولا نقص؟ هذا لا يكون: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] تجد هذا كريماً لكنه غضوب، وتجد هذا حليماً لكنه بخيل، وتجد هذا طيباً لكنه عجول، وهي مواقف لأن الله وزع المناقب والمثالب على الناس.