أيها الإخوة الأحباب! كما قلت لكم ومن وحي هذه الجلسة وهذا اللقاء الأخوي جعلت عنوان المحاضرة والدرس (فن تأليف الأرواح) وقد ذكر الله في محكم كتابه أصول هذا الفن، وذكرها رسوله عليه الصلاة والسلام بكلامه وعمله وأخلاقه الشريفة المنيفة صلى الله عليه وسلم، فقال المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]
قال أهل العلم: ثلاث منازل للظالمين والمقتصدين والسابقين بالخيرات.
فدرجة أولى من أسيء إليه فليكظم، وهذه درجة المقصرين من أمثالنا من المسلمين، أن يكظم غيظه ولا يتشفى في المجالس، ولا يتعرض للأعراض.
فإن زاد وأحسن: والعافين الناس، فليذهب إلى من أساء إليه ويقول: عفا الله عنك، وهذه درجة ثانية.
فإن زاد وأحسن فليذهب بهديةٍ وبزيارة إلى من أساء إليه ويقبل رأسه.
وقال أهل السير: قام خادمٌ على هارون الرشيد بماء حار يسكب عليه فسقط الإبريق بالماء على رأس الخليفة أمير المؤمنين وحاكم الدنيا، فكاد الماء الحار أن يمتلغ رأسه، فغضب الخليفة والتفت إلى الخادم، فقال المولى وكان ذكياً: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت، قال: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: أعتقتك لوجه الله.
وهذه مواقف الريادة التي تحصل بين المؤمنين والمتآخين، وفي معركة الجمل خرجت عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم وخرج الصحابة بالسيوف، وخرج علي معه بعض الصحابة من أهل بدر بالسيوف يلتقون، فقيل لـ عامر الشعبي: الله أكبر! يلتقي الصحابة ولا يفر بعضهم من بعض؟! قال: أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم من بعض، فلما قتل طلحة في المعركة وكان في الصف المضاد المعاكس لـ علي، نزل علي وترك السيف وأتى إلى طلحة وهو مقتول وهم من -العشرة المبشرين بالجنة- فنفض التراب عن لحية طلحة وقبله ودموع علي تهراق، وقال: [[يعز عليَّ يا أبا محمد! -والله- أن أراك مجندلاً على التراب، ولكن أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]] فانظر إلى الصفا وإلى العمق، وانظر إلى الروعة وهم يقتتلون والدماء تسيل وهذا يحتضن هذا ويسلم عليه، ويذكره أنه سوف يجلس معه في جنات ونهر في مقعد صدق عند ملك مقتدر.
ابن السماك الواعظ، مر به صاحبٌ له عتب عليه فقال لـ ابن السماك: غداً نتحاسب، يقول: غداً ألتقي معك في موعد أحاسبك وتحاسبني، وألومك وتلومني، ونعرف من هو المخطئ منا، فقال ابن السماك: " لا والله غداً نتغافر، ولا نتحاسب" فالمؤمنون لا يتحاسبون ولا يقول أحدهم للآخر: أنت كتبت فيَّ كذا وكذا وقلت في المجلس عني كذا وكذا، وسمعت أنك تغتابني، لا.
بل يقول: غفر الله لك، فغداً نتغافر.