قال ابن الجوزي في المناقب: خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه ذات ليلة، وكان يمر بالأبواب ويستمع ماذا حدث في المدينة وماذا طرأ، هل الأمة نائمة نوماً هادئاً؟ هل أكل الناس وشربوا؟ هل الأرامل في راحة؟ هل المساكين هادئون؟ فحينها يهدأ، أما إذا كانت الأمة في ولهٍ وقلق, وفي مرض وجوع، فلا يمكن أن يصبر عمر.
وفي جنح الظلام سمع امرأة تبيع لبناً تقول لابنتها: امزجيه بالماء، قالت: إن عمر منعنا من مزج اللبن بالماء -أصدر مرسوماً في السوق يمنع بيع اللبن إلا صافياً، وهذا المرسوم من وزارة التجارة في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه وأي لبنٍ يعثر عليه وقد مزج بالماء يغرم صاحبه ويتلف ماله- فقالت الأم: إن عمر لا يدري, قالت البنت: فإن لم يدر عمر ألا يدري رب عمر؟!!
فعرف عمر البيت, وفي الصباح أتى إليهم فخطب ابنتهم لأحد أبنائه, فولدت له وأنتجت، فكانت ذرية مباركة وشجرة طيبة، ومنها عمر بن عبد العزيز.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الورق النضر
فـ عمر بن عبد العزيز، من ابنة ماذقة اللبن: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] فـ عمر يراقب حتى أهل البيع في السوق، ويقيم امرأة تشرف على النساء اللواتي يبعن الطيب في السوق، لئلا يدخل الغش في جانب النساء، وعمر ينزل إلى السوق ويتخاطب مع الأعراب، ويرى حوائجهم، ويسمع أعرابياً يتأوه وسط السوق ويقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال: مه! ما هذا الكلام؟
دعاءٌ ليس معروفاً، قال: يا أمير المؤمنين! يقول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] فقلت: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.
أرسل عمر والياً على العراق، وهذا الوالي من قريش، وكان شاعراً أراد أن يقول شعراً, وما ظن أن شعره سوف يصل مباشرة إلى عمر، فقال الوالي يمزح مع جلاسه:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
معنى هذا: أي: اسقني شربة خمر، فالوالي كيف يشرب خمراً؟!
وهل عمر مستعد أن يترك في دولته والياً يشرب خمراً؟!
أهذا جزاء رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
أهذا مصداقية لبقية ما أبقت الرسالة في تاريخ الأمة؟!
فطار البيت مباشرة إلى عمر في المدينة، وقالوا له: يقول واليك يا أمير المؤمنين:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
يعني: جليسه، يقول هذا الوالي: بالله! يا ساقيّ قدِّم لي كأساً أشربه، واسق مثلها زميلي ابن هشام، فاضطرب عمر وغضب وأزبد وأرعد، فهو ليس مستعداً أن يبقي مثل هذه النوعية الفاشلة في دولته ولو ذهبت الرقاب، واستدعاه مباشرة، وفي الطريق ذهب الناس إلى هذا الوالي، وقالوا له: أنقذ نفسك، فالبيت هو الذي أوصلك في المصيبة، قال: كيف؟
قال: وصله قولك:
اسقني شربةً ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام
قال: ما عليكم، أي: أنه سوف يحلها بإذن الله، فقال بعدها بيتاً:
عسلاً بارداً بماء سحابٍ إنني لا أحب شرب المدام
ووصل إلى الخليفة، قال عمر: أأنت القائل: كذا وكذا؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قلت بيتين ما قلت بيتاً واحداً، قال: ما هو البيت الثاني؟
قال:
عسلاً بارداً بماء سحابٍ إنني لا أحب شرب المدام
قال عمر: أما الحد فلن أجلدك بهذا البيت، فقد سلمت نفسك، لكنك لن تلي لي عملاً بعدها تلعب بهذه الأبيات, وتصدر هذه الكلمات، ماذا تقول الأمة لي ولك وقد أسمعت الناس أنك تشرب الخمر؟
ما هو موقفي أمام الله يوم القيامة، إذا قال لي: إن واليك يشرب الخمر، كيف أقول؟
كيف أجيب؟
ماذا أقول للملايين والتاريخ؟
ماذا أقول لله؟
ماذا أقول لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ويرسل أميراً آخر إلى ميسان قريباً من البصرة، ويقع هذا الأمير فيما وقع فيه الأول، وكانوا شعراء من قريش، ويحبون أن يتمازحوا، لكن عمر كان وراءهم بالمرصاد، فأتى هذا في ليلة يسمر ويقول:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى من زجاج وحنتم
يقول: ليتكم تخبرون زوجتي في مكة أن حليلها -زوجها- أصبح يشرب الخمر، واسمع القصيدة:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى من زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ ورقاصة تحثو على كل منسم
حتى المغنية موجودة!
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
وتصل الأبيات إلى عمر، فقال عمر: عليَّ به، فأجلسه أمامه، قال: ما هذه الأبيات والله لقد ساءتني.
قال: والله! يا أمير المؤمنين ما شربت الخمر، قال: وما هذه الأبيات؟
قال: من باب قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226] قال: أسقطت الحد، لكن -والله- لا تلي لي ولاية.
طيرته أبيات! رقاصة وموسيقى وخمر، ضعها في غير دولة عمر، أما هذه الدولة التي أقيمت على شهادة أن لا إله إلا الله وآمنت بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وعرفت طريقها، فلن يكون هذا وعمر حي يرزق في الحياة؛ لأن معنى ذلك أنه سوف يضيع مصير الأمة وتاريخها, ويدوس معالم الأمة في التراب، يوم يتهاوى أمام هذا الرصد المفاجئ رضي الله عنه وأرضاه.
ويرسل أميراً زاهداً، وهو سعيد بن عامر إلى حمص، ليتولى الإمرة عليها، وعمر يطوف كل سنة على الأمراء يجمعهم ويسألهم أمام الناس، يوقف الوالي هنا، ويجلس الناس، ويقول: ما رأيكم في الوالي؟ فيتكلمون في ترجمته، مثل ترجمة الذهبي في الرجال، وأهل حمص مشاغبون، قال: ما رأيكم في سعيد بن عامر؟ قالوا: نعم الرجل، قال: اصدقوني، قالوا: لولا أربع خصال فيه، قال: ما هي؟
قالوا: لا يخرج لنا بليل، قال: هذه واحدة.
قال: والثانية؟
قالوا: له يومٌ في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه، أي: إنه لا يداوم يوماً في الأسبوع.
قال: والثالثة؟
قالوا: يجلس حتى يتعالى النهار ثم يأتي، أي: أنه يتأخر عن الدوام، قال: هذه الثالثة.
والرابعة؟
قالوا: إذا جلس في مجلس القضاء أغمي عليه، قال: أجب يا سعيد بن عامر، اللهم لا تخيب ظني فيه.
فيقوم سعيد بن عامر ويتبرأ إلى الله من حوله وقوته، ويقول: يا أمير المؤمنين! أما قولهم: لا أخرج إليهم في الليل، فقد جعلت النهار لهم, والليل لربي، أتعبد، وأما الليل فذكرٌ وقراءة القرآن وتعبد.
قال: والثانية وكانت دموع عمر تسيل، قال: وأما يوماً في الأسبوع فإني -يا أمير المؤمنين- ليس لي خادم وامرأتي مريضة، فأنا أغسل ثيابي وثياب زوجتي ثم أحميها ذاك اليوم.
قال: ولماذا تتأخر لا تخرج إليهم في النهار حتى يتعالى؟
قال: أصنع طعامي وطعام زوجتي ثم أتوضأ وأصلي الضحى, ثم أخرج إليهم، لأنه ليس لنا خادم وامرأتي مريضة.
قال: ولماذا يغمى عليك؟
قال: حضرت مقتل خبيب بن عدي في مكة فسمعته يقول: اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وكنت مع من نظر قتله وما نصرته، فكلما تذكرت ذاك أغمي عليَّ.
فبكى عمر وقال: الحمد الله الذي لم يخيب ظني فيك، وأمره أن يواصل، قال: يا أمير المؤمنين! اعفني والله لا أتولى لك ولاية، إذا كانت هذه هي المحاسبة, على أني صدقت وبررت ثم تحاسبني أمام الناس، وأكون مداناً ومتهماً فلن أتولى لك ولاية، قال عمر: مع ذلك لنحاسبنك، فحاسبه بما أعطاه كل شهر، وحاسبه عما أخذ من بيت المال، وحاسبه عما صرف فوجد عنده شملةً وقصعةً وإبريقاً وعصاً، قال: هذه من دخلي، قال: أما الآن فنجوت، ولو أنك كذبت لكنا فتكنا بك.