حكم تكلم الإمام مع المأموم

المسألة الثالثة التي أخذها أهل العلم: قطع الخطبة، هل يحق للإمام إذا كان يخطب الناس ويتكلم إذا دخل عليه داخل وقاطعه الحديث هل له أن يقطع خطبته؟ والمسألة فيها تفصيل:

إن كان السؤال وجيهاً وفي غير خطبة الجمعة فله أن يقطع الخطبة كهذا الدرس، كمن يسأله من يأتي من البادية يتعلم العقيدة أو يقول: أنا مسافر ذاهب ومستعجل، أريد أن تعلمني الصلاة الآن، وسوف أسافر الآن، فله أن يقطع الدرس؛ لأن التعليم هذا نافلة، وتعليم الجاهل فريضة، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم معاوية بن الحكم وغيره وقطع الحديث صلى الله عليه وسلم.

ولذلك يقول عمرو بن عبسة: {أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدته يتحدث للناس على كرسي من حديد، فقلت: يا رسول الله! رجل يسأل عن دينه، فما دينه؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وترك الناس ونزل من على كرسيه، وأتى إلى قربي وعلمني} هل هناك أخلاق بعد هذه الأخلاق سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟ ينزل ويترك كرسيه ومكانه أمام الجموع، ويأتي إلى السائل ويجلس بجانبه.

ولذلك إن كان السؤال خطيراً ومهماً في غير خطبة الجمعة فقد قال الإمام أحمد: أرى أن يقطع كلامه ويجيب السائل.

لأن بعض الناس إن لم تجبه سافر وترك الجواب، فهو ليس حريصاً على الجواب، حتى ولو كانت القضية أكبر من أي قضية، وبعضهم يتذمر حتى من الشيخ ويقول: إما أن تجيب على سؤالي وإلا سأذهب وأسافر الآن، فلذلك من المصلحة أن يتلطف ويخبره.

وأما في خطبة الجمعة فقال أهل العلم: للإمام أن يتكلم وللمأموم أن يتكلم معه لكن لا يقاطعه كأن يأتي الإمام بحديث ويقول: رواه الترمذي، فيأتي المأموم ويقول: لا.

أصله في الحاكم، ورواه ابن ماجة بسند جيد، ورد عليه الألباني، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز كذا وكذا، فهذا يؤدب، إنما الأصل أن يرد عليه بقضية هامة أو أن لها علاقة بالناس، وسوف آتي بالأحاديث أو الأدلة، ثم أنتم بفهمكم تأخذون الدلالة في ذلك.

فقضية تكلم الإمام مع المأموم دليله ما جاء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل سليك الغطفاني المسجد، فجلس فقال صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: {أصليت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: قم فصلِّ ركعتين خفيفتين وأوجز} أي: خفف.

لأن من الحاجة تعليم السنة في هذا المكان، وهي من الواجب أن يقولها الخطيب؛ لأنه لو تركها صلى الله عليه وسلم لربما نسيها هو، وربما الناس جميعاً، ولربما ظن من في المسجد أن هذا إقرار على فعله فيأخذونها فتصبح في أدمغتهم وهي خطأ.

ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب وهو يخطب الجمعة، فقال للرجل: {اجلس فقد آذيت} فهذا منكر يتمثل في أن هذا الرجل يتخطى رقاب الناس، ويتعدى الصفوف فقال: {اجلس فقد آذيت} فأجلسه صلى الله عليه وسلم.

المقصود: أن للإمام أن يتكلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي القضايا التي تهم الناس ويمكن أن يفهمها الناس خطأ.

وللمأموم أيضاً أن يتكلم في حالات كما في حديث أنس في الصحيح: {أن أعرابياًَ دخل وقال: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا}.

ومنها: أن عمر رضي الله عنه تكلم للناس وهو يخطب الجمعة وقد كسا الصحابة ثوباً وكان يكسو الناس ويوزع عليهم الهدايا والثياب، حتى يقال في السيرة أنه إذا وزع الدقيق على الأسر وعلى البيوت أخذ الأواني كلها فجعل آنيته وصحنه في آخر الصحون، ويوزع الدقيق رضي الله عنه وأرضاه ويوزع الزيت في الصحن، فيترك صحنه إلى الأخير، ثم يقول: خذ يا أسلم أوصل هذا إلى أهل عمر، فأتت زوجه عاتكة بنت زيد فأخذت كل ما وصل إليها من دقيق وأبقت منه شيئاُ قليلاً حتى جمعت عندها دقيقاً، وأرسلت جارية من جواري الجيران حتى لا يعلم عمر أنهم أبقوا دقيقاً وقالت للجارية: اذهبي إلى أمير المؤمنين عمر في بيت المال واشتري منه حلوى -الحلوى كانت قطعاً طويلة كالسكر تباع وهي أحسن شيء للحامل- فذهبت هذه الجارية، وكان عمر ذا فراسة رضي الله عنه، حتى يقال: كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، ويقول ابن عمر في صحيح البخاري: [[كنا نتكلم أن السكينة تنطق على لسان عمر]] حتى يأتي الولاة يحاسبهم فينسون بعض الحساب ويرتبكون لأنه وراءهم رضي الله عنه بالدرة.

لذلك يقول عمرو بن العاص: لما حسبت ميزانية مصر وقدمت بها إلى عمر وقد حسبتها في الطريق فوجدتها قد نقصت ما يقارب عشرة آلاف درهم -ومن يمنعه من عمر رضي الله عنه لا بد أن يخرجها من البر أو البحر - قال: فتحيلت ماذا أفعل، فقلت: ليس معي إلا أن أتركها حتى يشتغل بالولاة، إذا جلس يحاسب ولاة الأقاليم أدخل أنا في الربكة معهم حتى يحاسبني عجولاً ثم أخرج، فأتى دور معاوية، فلما انتصف الحساب مع معاوية رضي الله عنه وأرضاه، دخل عمرو بن العاص وقال: يا أمير المؤمنين! عندي سفر وأريد أن تحاسبني الآن، قال: اصبر، أو لا تستعجل، فقال: يا أمير المؤمنين! لا صبر لي، وهذا ثابت في سيرتهم رضي الله عنهم، قال معاوية: إن هذا نكد يا أمير المؤمنين! يقطع علي حديثي، قال: أنت النكد فتقاتلا بين يدي عمر رضي الله عنه، فقال عمر: أعطني المال الذي عندك واصرف عنا وجهك، يقول لـ عمرو بن العاص وأثبت ذلك أهل السير وهم بشر، لكن الدهاء قد ينفع في بعض المواقف، فأخذ عمر رضي الله عنه المال، فقال عمرو بن العاص: ووالله ما أظن أنني قدرت على عمر إلا في تلك المرة، ولا يفهم من ذلك أن الصحابة يتحيلون على بعض، أو يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، لا والله، لكن قد ترتبك بعض حسابات البشر، أو ينسون، أو يغفلون، وعمر لا يعرف الارتباك، ولا يعرف الغفلة.

ولذلك أتت الجارية إلى عمر وقالت: أعطنا حلوى من بيت المال، قال: من أين هذا الدقيق؟ قالت: من عند أهلي، وأخذ بأذنها رضي الله عنه وفركها -فرك أذنها- فقال: الصدق! قالت: عاتكة امرأتك هي التي أرسلتني بالدقيق، قال: هيه! أطفال المسلمين يموتون جوعاً، وعاتكة تدخر، والله لا تذوق حلوى، ووالله لا يعود لها الدقيق، فذهبت:

لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولارجع الحمار

ولذلك يقول حافظ إبراهيم:

لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها

قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015