من تقصيرنا في الدعوة أمور:
أولاً: أنه يوجد من يشهر العصاة؛ يشهرهم بأسمائهم، أو يكبتهم بالعتاب أمامهم، أو يتحدث لهم أمام الناس في معصيتهم، وهذا خطأ، يقول الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
ثانياً: أننا لا نسبق في إيصال الحق لأصحابه.
ثالثاًَ: أن القوالب الذي يؤدى فيها المعروف تكون فضة غليظة، فلا يقبلها الناس، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يقول جرير بن عبد الله البجلي: [[والله ما زال عليه الصلاة والسلام كل ما رآني يتبسم في وجهي]] ويقول عمرو بن العاص: [[ما زال صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّّ -في أول الإسلام يتألفه- حتى ظننت أنني أفضل من أبي بكر وعمر]] فاللين وإيصال الحق بقالب الرحمة وعدم التشهير بالعصاة الذين فيهم خير.
أنا أذكر قصة لرجل سمعتها منه مباشرة: داعية موفق، نور الله بصيرته، وآتاه الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] يقول: في بلدنا رجلٌ مجرم وكان هذا المجرم يروج المخدرات، وسبق أن رجال الأمن طاردوه وطاردهم وضايقوه وضايقهم، كان يحمل السلاح وكان لا يعرف الصلاة، قطع والديه، وقطع أرحامه، ونسي الله وتردى في المعاصي حتى أعجز الناس، قال: فأتتني فكرة أن يهديه الله على يدي، فكنت أقوم في آخر الليل مع السحر، وأتضرع أن يجعل هدايته على يدي، قال: وصمت قبل أن أصله إلى بيته علَّ الله أن يجعله من العمل الصالح الذي يتقرب به إلى الله، قال: ثم أخذت هدية -وما أحسن الهدية، هديةٌ تأخذ القلوب وتجلب الأرواح- قال: وذهبت بها إلى بيت الرجل، فلما رأيته سلَّمت عليه، قلت: أحببتك في الله ورأيت عليك آثار الخير.
من أين آثار الخير؟ وجهه كقفاه، أسود من الليل، لكن انظر إلى الأساليب وانظر إلى السحر الحلال!!
في السحر: سحر حلال، وسحر حرام.
السحر الحلال: تبسمك في وجوه الرجال.
والسحر الحلال: أن تدعو الناس بأسلوبٍ عذب يصل إلى القلوب.
والسحر الحلال: أن تعانق العصاة لتقودهم إلى الجنة؛ ليكونوا في ميزان حسناتك، الكلمة الفظة سهلة، وتعقيد الجبين سهل، والهراوة سهلة، ولكنها تفوت ولا تبني، وتشرد ولا تجمع، وتقسي ولا تلين، من يحرم الرفق يحرم الخير كله.
وقال عليه الصلاة والسلام: {ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه} ويقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله} {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال: فنظر فيَّ قال: أتعرفني؟ قلت: لا.
رأيتك في مناسبات فخذ هذه الهدية، قال: فأخذها، قال: وما كلمته بكلمة وعدت إلى بيتي، وقلت: الحمد لله نجحت في أول خطوة، قال: وعدت إلى بيتي وبعد أيام ذهبت إليه، وقلت: أسألك بالله فيما بيني وبينك من صلة، وقد سبق أن التقينا أن تأتيني إلى بيتي زيارة، فإني أحببتك، قال: آتيك.
فحددت له موعداً لا أكون فيه إلا أنا وهو.
قال: فدخل بيتي، ووجهه مظلم، يقول ابن القيم: مشئوم تشأم منه السماء والأرض، والمبارك يكون مباركاً أينما كان وأينما حل وارتحل.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وماذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
قال: فدخل البيت وتغدى، قال: والله ما كلَّمته في الدعوة بكلمة، قال: وخرج، قلت: وهذا نجاحٌ ثانٍ، قال: ومرت ثالثة، قلت: معي مشوار إلى قرية قريبة أريد أن تركب معي، قال: فركب معي، قال: فلما ركب معي ابتهلت إلى الله ودمعت عيناي أن يرزقني الصدق، وأن يجري الحق على لساني، قال: فلما ركب قال: انطلقت بالكلام وأتت فتوحات من الله الواحد الأحد، ولا أدري من أين انهال هذا الكلام! قال: وأخذت دموعه تتسابق -أحيا الله الفطرة، أخرجها الله من مكامنها واشتعلت في قلبه، فتحركت لا إله إلا الله في روحه- قلت: أريد أن أنجيك من النار، أريد أن أقودك إلى الجنة في كلامٍ طويل، قال: مد يدك، قال: فمددت يدي، قال: أشهد الله، وملائكته، وحملة عرشه، ثم أشهدك أني تبت إلى الله، وأسألك بالله الذي لا إله إلا هو قبل الفجر أن تمر بي لتأخذني إلى المسجد، قال: فما رددت عليه إلا وهو يبكي من هذا الفتح العظيم؟ وعدت إلى القرية وبعد أيام كان يصلي معي في المسجد، ودخل على والده ووالدته وقد كانوا كباراً في السن، هجرهم سنوات، كانوا شيوخاً، بكوا من مرارة قسوته، دخل عليهم وآثار الخير والنور يشع من وجه، قالوا: أنت فلان؟ قال: نعم أنا فلان، ثم قبَّل يد أبيه ورأسه ويد أمه ورأسها، فانطلقوا يبكون فرحاً في البيت.
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فيا مسلمون! بمثل هذا وهو أسلوب محمد صلى الله عليه وسلم الفطري العجيب، الذي وصل به إلى قلوب الناس، والذي أخذ أعداء الناس حتى أصبحوا في صفه عليه الصلاة والسلام.