إخفاء الصدقة

الصنف السادس: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وفي بعض الروايات قلب على بعض الرواة فقال: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله.

والصحيح: حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ لأن التي تنفق هي اليمين، وهي التي تعطي، وليس معنى ذلك أن الشمال تدري، وبعض الصالحين حملوها على هذا المعنى فكانوا يخفون شمائلهم؛ كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق أخفى شماله ثم أعطى بيمينه، وهذا معنى رقيق ولطيف.

ولكن المعنى الصحيح: أنه من إخفائه في الصدقة لا يعلم به إلا الحي القيوم، لا يدري أحد أنه تصدق إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإذا أراد أن يتصدق أخفى ثم أعطى الفقير أو المسكين أو المستحق فلا يدري أنه تصدق إلا الله، ولذلك جاء في الحديث وهو يقبل التحسين: أن الله عز وجل يضحك لثلاثة -وضحكه يليق بجلاله، لا تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، إنما له صفة ضحك تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالى- يضحك لثلاثة:

الأول منهم: رجل سافر مع قافلة، فمشوا إلى آخر الليل، ثم قالوا: نريد أن ننام، فأنزلوا أمتعتهم وأغراضهم وأرادوا النوم، بعد تعب وإعياء ومشقة لا يعلمها إلا الله، فلما وقعوا في الأرض ناموا إلا هذا الرجل ترك النوم، بل قام فتوضأ بالماء البارد وقام يصلي على تعبه في السفر، ويدعو الله عز وجل، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، ترك النوم، وأتى إلى الماء البارد وتوضأ منه يتملقني ويدعوني، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

الثاني: رجل كان في سرية يقاتل الأعداء، فلما اقتربت من الأعداء فرت هذه السرية -وهي مسلمة- إلا هذا الرجل قام وقال: يا سبحان الله! أنفر من أعداء الله؟ والله لا أفر هذا اليوم.

فخلع درعه ولقي العدو حاسراً لا درع عليه، فقاتل حتى قتل، فقال الله لملائكته: أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

ورجل ثالث كان في قافلة في سفر فمر بهم فقير مسكين محتاج، فمد يديه وقال: أسألكم بالله الذي لا إله إلا هو، أنا منقطع بي الحال أن تؤتوني مما آتاكم الله.

قال: فلم تلتفت له القافلة، إلا هذا الرجل تخلف عنهم حتى اختفوا وراء أكمة أو جبل، فأخذ شيئاً من المال وأعطاه الفقير ومسح على رأسه، فقال الله: يا ملائكتي أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

فهذا رجل تصدق بصدقة وتخفى عن تلك القافلة حتى لا يعلم بصدقته إلا الله.

وذكروا أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهؤلاء ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً

فنحن نحبهم ونتقرب إلى الله بحبهم، أبناء فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.

كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يسمى زين العابدين، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: أنه كان يصلي في الليل ألف ركعة.

ولا ندري ما صفة هذه الصلاة، لكن هذه الرواية وردت، إما أنه كان يختصر في الصلاة ويقرأ الفاتحة ويكثر، أو كان يحسب بالنهار والليل، ولكن أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

إنما الشاهد: أنه كان يخرج كل ليلة، فيأخذ من الدقيق ومن السمن على ظهره، ويمر على فقراء المدينة ويعطيهم في ظلام الليل بحيث لا يراه إلا الله، فعلم أهله بعد فترة فلما أتوا يغسلونه -وقد توفي- وجدوا آثار خيوط الحبال على كتفه، فسألوا أهله، فقالوا: إنها من كثرة ما كان يحمل على كتفه من الدقيق ومن التمر والزبيب، ويوزع على فقراء المدينة كل ليلة.

فهذا من الصنف الذي أخفى صدقته بحيث لا يراه إلا الله عز وجل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015