أورد أهل السير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه - وسيره وسير أبي بكر وعمر وعثمان؛ هؤلاء الصفوة هي التي تحيي القلوب بإذن الله عز وجل، والذي يريد أن يعرف ويتعرف على الإسلام؛ فعليه أن يقرأ سير هؤلاء فإنهم هم الذين هداهم الله وذكرهم في كتابه.
فَقَدَ علي بن أبي طالب درعه، فأخذه يهودي، فمر علي رضي الله عنه، فرأى درعه على اليهودي، فأمسكه بتلابيبه، وقال: درعي يا يهودي! وعلي في ذلك الوقت خليفة المؤمنين من شرق الأرض إلى غربها، وبإمكانه أن يدعو الجنود فيضربوا هذا اليهودي حتى لا يدري أين الشرق من الغرب، لكن لا.
فالأمر شورى والخلافة بيعة والحق حق والحقوق قضاء
فقال اليهودي: ليس هذا بدرعك.
فقال علي: بل درعي والله.
والواجب أن يصدق، فقال اليهودي: أتحاكم أنا وأنت.
قال: أنا الخليفة.
قال: لا.
أنت ستحكم لنفسك.
وأراد اليهودي أن يمتحنه، فذهبوا إلى شريح القاضي، وهو أحد قضاة علي رضي الله عنه وأرضاه، فلما أتوا إليه قام فرحب بـ علي بن أبي طالب، قال علي: لا ترحب بي، لأنني خصم.
أنا جئتك اليوم خصم، وما جئتك خليفة، إذا جئتك خليفة فرحب بي، ولكن ساو بيننا في لحظك ولفظك.
فقال شريح: اجلس هنا يا أمير المؤمنين! قال: لا.
لأنني خصم، إما أن تجلسنا سوياً في مكان واحد، أو أجلسنا على الأرض في مكان واحد، فأجلس علياً بجانب اليهودي على الأرض، وجلس شريح على كرسي القضاء.
ثم قال: هل لك بينة يا أمير المؤمنين أن الدرع درعك؟ قال: نعم.
يشهد لي شاهد.
قال: من شاهدك؟ قال: ابني.
قال: أنت تعلم أن الابن لا يشهد لأبيه.
وعلي يريد أن يختبر القاضي، قال: إذاً ليس عندي شاهد.
قال: إذاً فالدرع درع اليهودي، لأنك لم تأت ببينة، فأخذه اليهودي فولى، ثم التفت وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، آمنت بهذا الدين الذي أجلسك يا أمير المؤمنين بمجلس معي، والله الذي لا إله إلا هو إن الدرع درعك، فأعطاه وسلمه ودخل في الإسلام.
فهذا وأمثاله من أئمة الإسلام، هم الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولذلك يقول أحمد شوقي يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
وإذا حكمت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء
وعمر رضي الله عنه وأرضاه مثَّل العدل في الإسلام، وقصصه لا تنتهي أبداً، ولكن نكتفي ببعض المواقف.
منها: أنه جلس مع الصحابة رضوان الله عليهم في المدينة في ضحى النهار، وإذا برجل يقدم من البادية مسحوباً بيده من قبل شباب ثلاثة، فقال لهم عمر: مالكم ماذا وقع؟
قالوا: هذا قتل أبانا.
قال: وما الخبر؟
قالوا: أتى أبونا بجمل معه، فرعى في مزرعة هذا الرجل، فقام وأخذ حجراً فألقاه على رأس أبينا فقتله، فالتفت عمر إلى الرجل وقال: أقتلت أباهم؟
قال: نعم.
قتلت أباهم.
قال: وما حملك؟ قال: عدى بجمله على مزرعتي فظننت أنني سوف أبعده بالحجر فرميته فقتلته.
قال القصاص: حكم الله بالقتل.
قال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تمهلني ثلاثة أيام، فوالله الذي لا إله إلا هو أن أهلي في الصحراء، ما معهم معول إلا أنا بعد الله عز وجل، ولا خليفة لهم بعد الله إلا أنا، لا يعلمون أين ذهبت من أرض الله، لأنني لما قتلت أباهم، اقتادوني إليك ولم أخبر أهلي، قال عمر: لن تذهب، لأنك خصم، وقد حكم عليك بالقصاص إلا أن تأتي بكفيل.
فالتفت إلى الصحابة فلم يعرف أحداً منهم أبداً، فأعاد النظر إليهم -ويا سبحان الله! فتيه ونساء وراءه، كيف يقتل في المدينة وهم ليس عندهم خبر، ولا خليفة لهم بعده ولا والي إلا الله عز وجل؟! - فالتفت إلى الصحابة ثم نظر إليهم، فرأى أبا ذر رضي الله عنه، وإذا على وجهه النور والخشية والزهد، فقال: يا شيخ! أنا ما عرفتك لكن أسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تكفلني، فإني سوف أعود.
قال أبو ذر: ومن بيني ويبنك؟ قال: بيني وبينك الله.
قال: أبو ذر، وعيناه تدمع: كفى بالله ولياً وكفى بالله حسيباً.
فقال عمر رضي الله عنه: أكفلته يا أبا ذر؟ قال: نعم.
يا أمير المؤمنين! والله لو كنا في الجاهلية لكفلته، كيف وقد أتاني بموثق من الله.
ولذلك لما أتى يعقوب عليه السلام قال لأبنائه: أعطوني موثقاً، فأتوه بموثق من الله عز وجل، فقال: الله على ما نقول وكيل، ومن رضي بالله وكيلاً، كفاه الله عز وجل.
فذهب الرجل وبقي أبو ذر، وجلس الصحابة رضوان الله عليهم، ومضت ثلاثة أيام وهم ينتظرون، وفي اليوم الرابع جلس عمر رضي الله عنه الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى يقول: والله لو فصل عظمي عن لحمي لأعملن بسنه سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجلس ودعا الشباب الذين يطالبون بدم أبيهم، ودعا أبا ذر، فخرج أبو ذر، فقال: أجاء الرجل؟ قالوا: لم يأت من البادية.
قال: الله المستعان! لأن القصاص في ذلك الوقت، فجلس الصحابة يطالعون وينظرون في الصحراء، وتأخر الرجل حتى قرب الغروب، وقال عمر رضي الله عنه: إن غربت الشمس فالقصاص يا أبا ذر.
قال: يا أمير المؤمنين! كيف؟ قال: والله لا أمهلك، حكم الله عز وجل، أنت عن أبيهم لأنك كفيل، فلما أوشكت الشمس على الغروب، وإذا بذلك الرجل يقبل وهو يجري جرياً، فلما دخل ألقى نفسه وقال: والله ما أكلت من الصباح وما شربت؛ لأدرككم، في هذا اليوم، ذهبت إلى أهلي، والله لقد تركت صبيتي وبناتي يتباكون، فتأثر الصحابة كثيراً، والتفت عمر رضي الله عنه، وقال: القصاص، حكم الله عز وجل.
فقام الشباب، وقالوا: ما دام أن هذا أوفى مع الله عز وجل، فلا يكون أوفى منا، قد عفونا عنه وسامحناه، فقام عمر وقال: عفا الله عنكم يوم العرض الأكبر، وجزاك الله بوفائك خيراً يوم أتيت، وبارك الله فيك يا أبا ذر؛ لأنك كفلته في ذات الله عز وجل.
فهذه صورة رائعة من صور العدل التي مثلها عمر رضي الله عنه وأرضاه للأمة، والله عز وجل يقول لداود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].