وقعت له عليه الصلاة والسلام قصص في العدالة، ولذلك ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن الزبير، قال: {اختصم أبو عبد الله الزبير بن العوام حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، هو ورجل من الأنصار في مزرعة في شراج الحرة -وهي ضاحية من ضواحي المدينة - فلما اختصم الزبير هو وهذا الرجل الأنصاري، ذهبوا إلى أعدل الخلق، وإلى الحاكم عليه الصلاة والسلام، الذي ائتمنه الله على الوحي من السماء، فكيف لا يأتمنه الناس على الدرهم والدينار، والذي قال الله فيه: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:24 - 25] وقال في سورة الحاقة {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:45 - 46].
نزه الله سمعه وبصره، ومدح قلبه ويده ورجله، فهو الممدوح المعصوم عليه الصلاة والسلام.
حضر ليحكم في القصة؛ فأتى فإذا مزرعة الزبير فوق مزرعة الأنصاري، والزبير بن العوام ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام صفية بنت عبد المطلب، والناس تسرع إليهم الشبه والريب، فأتى عليه الصلاة والسلام رحمة بالأنصاري وعطفاً عليه، فأراد أن يكون صلحاً ولا يكون حكماً، لأن للقاضي عليه أن يقدم الصلح قبل الحكم، بشرط أن يكون الصلح غير منافٍ لكتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير! اسق، فإذا سقيت فاترك الماء ينزل إلى مزرعة الأنصاري.
فغضب الأنصاري، وهو مسلم ولكن الشيطان راوده، يغضب على سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، فالتفت الأنصاري والصحابة وقوف، وقال: أن كان ابن عمتك حكمت له؟ سبحان الله! الرسول يميل مع ابن العمة وابن الجدة وابن الخالة، وينسى الله وهو أتقى الناس لله! فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام وسكت، فقام عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا رسول الله! نافق هذا الرجل دعني أضرب عنقه.
ثم ما دام أن الأنصاري اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجور فالآن يأتى الحكم، كان في صالحه أول النهار، ولكن الآن أتى الحكم، فقال: اسق يا زبير حتى يعود الماء إلى الجدر -يعني إلى الجدار- ثم اترك الماء يمر.
فما رضي الأنصاري أول مرة بالصلح الذي هو لصالحه، ولكن غاضب الرسول عليه الصلاة والسلام فحاكمه إلى السنة، فقال: والسنة أن يسقي حتى يعود إلى الجدار، ثم اترك الماء.
فذهب صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه وهو في طريقه إلى المدينة قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] معنى الآية: والله لا يدخل الإيمان في قلوبهم، ولا يذوقون طعم اليقين حتى يحكموك ويجعلوك حكماً عادلا ًمنصفاً يرضونك، حتى يقول بعض العلماء: يرضونك في لا إله إلا الله، كما رضوك في أقل شعائر الدين.
فمن لم يرض به صلى الله عليه وسلم حاكماً في عبادته، وعقيدته، وسلوكه، وأخلاقه، فوالله ما آمن ولا رضي بالله رباً، ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم إماماً.
ووقعت له صلى الله عليه وسلم قصة أخرى وهو يقسم الغنائم بين الناس، فكان يعطي هذا ليتألفه للإسلام كما تعرفون، ويقلل لهذا لأن في قلبه إيماناً ويقيناً وصدقاً، فيأتي بعض المنافقين ويجلس ويقول: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى.
فيذهب ابن مسعود فيقول: أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته في أذنه بالخبر، فتغير وجهه حتى أصبح كالصرف.
قيل: الصرف النحاس الأحمر، وقيل: الذهب الأحمر، وقال: رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال ابن مسعود قلت في نفسي لا جرم والله لا أرفع إليه بعدها كلمة.
قال: فذهبت، فأتى خارجي ناتئ الجبين، أي: مقدم الجبين، فقال: يا محمد! اعدل -يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدل- فقال رسول الله: خبت وخسرت إن لم أعدل، ألا تأمونني وأنا أمين من في السماء، فقال عمر: دعني أضرب عنقه يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: لا.
يخرج من ضئضئ هذا -قيل ثديه وقيل يده؛ لأنه كان في يده كحلَم الشاة، وقيل: كحلَم الشاة وعليها شعرات، قال: {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وهؤلاء هم الخوارج، أخذوا بالحكم الظاهر وتركوا حقائق الأمور، فأدركهم سيف الله المنتضى أبو الحسن، فقتلهم قتل عاد، وكانت من حسناته.
فالإمام العادل وأعدل الناس هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أتى الأئمة العدول بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما المقصود من هذا أن من ولاه الله أمراً من أمور هذه الأمة فليتق الله وليعدل؛ إن كان مديراً في مدرسة، أو مسئولاً في الحكومة، أو موظفاً أو رائداً في بيته، أو مسئولاً وأميراً في سفر، أو إماماً عاماً أو قاضياً؛ فليعلم أنه يأتي يوم القيامة إما عادلاً يظله الله في ظله أو جائراً يتلفه الله عز وجل.