يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما: أنه لما احتضر صلى الله عليه وسلم وضع خميصته -وهي قطعة قماش- على وجهه الشريف من شدة الكرب، وروحه تنتزع من بين جنبيه، وهو يقول: {لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم خفف علي سكرات الموت، تقول عائشة: بأبي هو وأمي! والله إنه كان يضعها في الماء، فيبلها -أي: الخميصة- ثم يضعها على وجهه، ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت} ثم يقول صلى الله عليه وسلم وهو في السياق: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} قال الصحابة: إنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم لأنه خيِّر بين أن يمد له في عمره، وأن ينسأ له في أجله، أو يلقى ربه، فقال: بل الرفيق الأعلى.
أي: أريد اللقاء الآن، أريد الرحيل من هذه الدنيا الآن، أريد الموت في هذه الساعة، لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مهما طال عمره، ومهما امتد أجله، فإنه سوف يلقى هذا المصرع، فمن الآن إذا كانت هذه الحياة نهايتها هذه النهاية، فبدون كلفة، وبدون مشقة وهموم وغموم، الآن آخذها وأجرع كأس الموت، وأرتاح من هذه الحياة.
وتوفي صلى الله عليه وسلم كما يتوفى الناس، ومات كما يموت بنو الإنسان، لكنه بقي ذكره أبد الآبدين؛ لأنه أحسن العمل مع الله، والإنسان يطمع في طول العمر، وامتداد الأجل، لأن بعض الناس يرى هذه الحياة متعة، سكنى، ومطعم، وملبس، وزواج، وترقي، ومناصب، فيرى أن هذه الحياة أحسن من الحياة الأخرى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة:86] أولئك الذين ضلت أعمالهم، أولئك الذين حبط مسعاهم، أولئك الذين خسروا الصفقة مع الله، يريدون هذه الحياة فحسب.