فهذا عمر يطوف في المدينة! وهو رجل الأمة الأول، وهكذا يعنون له الفضلاء، ينام الناس في العاصمة ولا ينام، ويشبعون ولا يشبع، ويرتاحون ولا يرتاح.
إذا هدأت العيون ونامت وتلألأت النجوم، أخذ درته وجاب سكك المدينة يتفقد، هل من مريض؟
هل من أرملة؟
هل من مجرمٍ يؤدبه؟
وفي ليلةٍ من الليالي: سمع امرأة في خيمة وهي في النفاس، فسمعها تصرخ من ألم الولادة فبكى، وذهب إلى بيت المال وحمل شحماً وزيتاً وزبيباً وبراً على كتفه فقال أسلم مولاه: أنا يا أمير المؤمنين! أحمل هذا، قال: لا.
إنك لا تحمل أوزاري يوم القيامة، ودخل الخيمة وصنع الطعام وقدم العشاء للمرأة، فقالت: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب، وهو عمر بشحمه ودمه وإيمانه وإخلاصه.
ذهب عمرو بن العاص إلى مصر أميراً فاتحاً، فتسابق ابنه محمد ومصريٌ على فرسين، فسبق المصري محمد بن عمرو بن العاص وهو ابن الأمير، فنزل ابن عمرو، فضرب المصري على وجهه، لماذا؟ أهذا نهج الإسلام؟! أهذه العدالة المنشودة التي أتت من فوق سبع سماوات؟! أهذا ميثاق: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أن يمتهن الإنسان ويضطهد؟!
فذهب المصري إلى عمر فأخبره، فدعى عمر عمرو بن العاص وابنه محمداً، والجماهير من الأمة ملء الأرض، فلما قدم عمرو وهو لا يدري ما الخبر وبيده ابنه محمد، وقبل أن يسلم على عمر، قام عمر بالدرة التي إذا ضرب بها أحداً من الناس؛ أخرج وساوس الشيطان من رأسه! قال للناس: والله لا يحول بيني وبين عمرو وابنه أحد، ثم أخذ عمراً فبطحه أرضاً.
كل بطَّاحٍ من الناس له يومٌ بطوحُ
ثم أتى بابنه محمد فنكسه عليه، وأخذ يضربهم ضرباً مبرحاً، فيقول عمرو: الله الله يا أمير المؤمنين فيَّ! الله الله فيَّ! فيقول عمر: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]].
متى كانوا عبيداً؟
متى كان هذا الإرهاق والاضطهاد والتبعية؟!
ما فائدة الإسلام في الأرض إذاً؟!
فما نفع الميزان والكتاب والسنة؟
وتمشي المسيرة، ويأتي عام الرمادة، عام ثمانية عشر للهجرة، فتأخذ الأخضر واليابس، ويموت الناس جوعاً، فيكتب عمر للأقاليم، أن يحضروا عنده في المدينة، فنصب لهم خياماً، وقال: [[إن حييت، فالحياة حياتي، وإن متُ ماتوا معي]] كان يأخذ الطعام في الصباح في الصحاف على رأسه ورءوس أبنائه ويوزعه في الخيام، كان يجلس فيبكي ويقول: [[الله يا عمر كم قتلت من نفس!]] لماذا قتلت؟ من قتلت؟ وأنت تحيي النفوس ولا تقتلها!
وفي عام الرمادة، حلف ألا يأكل سميناً ولا ينبل في سمن، حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وقف على المنبر يوم الجمعة، ببرده المرقع -طيلة الخلافة- ليس معه إلا هو، والله! لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ووالله! لو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والاستبرق لاستطاع، ووالله! لو أراد أن يجعل أسوار المدينة من الزبرجد الذي كسبه من كسرى وقيصر لاستطاع.
يقف في أثناء الخطبة، فتقرقر بطنه وأمعاؤه تلتهب من الجوع، رجل لا يأكل ثلاثة أيام إلا كسرة خبز من شعير! فيقول لبطنه: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]]
هل لنا تاريخ غير عمر؟
هل معنا تاريخ غير تاريخ عمر؟
وبماذا نتكلم مع الأمم؟
وبماذا نفتخر؟
وبماذا نتصدى للهجومات البشعة على الإسلام إلا بمثل عمر؟!
أذعن له الكفار قبل المؤمنين.
يقول مايكل هارف الدكتور الذكي الأمريكي: في كتابه الأوائل، (ص:164): "هذا وكان لـ عمر بعد محمد -عليه الصلاة والسلام- أعظم الأثر في فتوحات الإسلام، فلولاه -هكذا يقول: ونحن نقول: لولا الله- لما انتشر الإسلام هذا الانتشار الفظيع السريع في الأرض".
يصلي عمر بالناس صلاة الاستسقاء، فلا يدرون ماذا يقول من البكاء، وهو يسأل الله ألا يجعل هلاك الأمة في ولايته، فينهل الغيث وهو في المصلى!! ويسير الماء غدقاً تحيا به النفوس والقلوب وتعود الحياة إلى العاصمة.