المسألة الرابعة عشرة: أعظم لباس {ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً
فمن استتر بستر الله من الطاعات والعبادات والأخلاق الجميلة، ستره الله في الدنيا والآخرة، ولو كان في قلة من الثياب، ومن تكشف أمره بالمعاصي والذنوب والخطايا لا يستره الله ولو لبس ما في الدنيا من ثياب {ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] فأحسن لباس -يا عباد الله- لباس التقوى، وإني أدعو نفسي وإياكم إلى التلبس بهذا اللباس بالأخلاق الجميلة بالتواضع بالصدق مع الله والإخلاص، لعل الله أن يلبسنا وإياكم التقوى في الدنيا والآخرة، فإن من ألبسه الله التقوى نجح في الدنيا والآخرة، ولا يخاف ظلماً ولا هضماً.
قال البخاري: وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة.
قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء} مر هذا معنا وأن بعض الناس يقول: إن ثوبي طويل، وأنا لا أفعل ذلك خيلاء، فنقول: الإزار غير الثوب، فالإزار هو ما يلف بشيء، أو يربط، أو يعقد عند الأزرة، فهو يرتخي بالطبع.
أما الذي يذهب إلى الخياط، فيقول: أسبله في الأرض، فهو الذي تعمد، وهو الذي أتى بهذا الخطأ وهذا الذنب، ولا يقل فيما بعد: الخياط هو الذي فعل كذا، وكثير من الناس إذا قيل له: ارفع إزارك، قال: حسبنا الله على الخياط.
سبحان الله! هذا الخياط كيف تعرض للمسلمين دائماً في تطويل ثيابهم، وإذا قيل له: ربِّ لحيتك، قال: حسبنا الله على الحلاق.
أصبح الخياط، والحلاق، والفران، والخباز، والغسال، المسئولين عن عقائد الناس، وعن عباداتهم وآدابهم، ومتى كانوا كذلك؟ إنما هم يفعلون ما يؤمرون، لا يعصون أبداً، فأنت إذا اتقيت الله عز وجل لا يصيبك لوم.
وعلى المسلم ألا يستنكف عن السنة، حتى إن بعضهم يقول: العصر لا يناسب أن نجعل ثيابنا فوق الكعب.
نحن لا نقول: يرفعها كثيراً، لكن فوق الكعب، وسوف يجملك الله عز وجل ولو فوق الكعب، أما أن تسحبها سحباً فإنك لست مسئولاً عن كنس الشوارع ولا الأحياء، فقد تولاها غيرك، فأنت -بارك الله فيك- لباس التقوى هذا هو لباس عباد الله الصالحين، ولباس المصطفى عليه الصلاة والسلام.
عمر رضي الله عنه طعن وهو في سكرات الموت، وأتى شابٌ يجر إزاره، فقال له: [[يا بن أخي، ارفع إزارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] وفي بعض السير [[أتقى وأنقى وأبقى]] فهو أبقى للثوب، وأتقى لله، وأنقى للثوب من النجاسات، وهل تدلك الشريعة إلا على ما فيه خير لك في الدنيا والآخرة، وكلما علم الله أنك تريد التقيد بشرعه كلما زادك من الخير والفضل والحسن في الدنيا والآخرة، وهذه الشريعة لا يستنكف ولا يتكبر عليها.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: {خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس فصلى ركعتين، فجلي عنها -أي: عن الشمس- ثم أقبل علينا وقال: إن الشمس والقمر آيتين من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى يكشفها} أي: يكشفها الله عز وجل.
وهذا الحديث له قصة: مات ابن الرسول عليه الصلاة والسلام إبراهيم، وعمره ما يقارب السنتين، فلما مات كان من قضاء الله وقدره أن يكسف بالشمس في ذلك اليوم، لا لموت ابنه، فلما كسفت الشمس في ذلك اليوم قام عليه الصلاة والسلام من مجلسه، يجر إزاره، وفي بعض الألفاظ سقطت عمامته في الأرض خائفاً أن الساعة قامت؛ لأنه أول مرة في حياته تكسف، وما كان يعرف صلى الله عليه وسلم أن هذا سوف يقع، فقام إلى المسجد وقام الناس وراءه، وتباكى النساء والأطفال، وثوب بالصلاة ودخل يصلي، والبكاء يقطع صوته صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة البقرة، وفي أثناء الصلاة تأخر قليلاً وتقدم قليلاً، فلما سلم قام فألقى خطبة عظيمة، لأنه سمع الناس يقولون: كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال: {إن الشمس والقمر لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آية من آيات الله يخوف الله بهما عباده قالوا: يا رسول الله! نراك تقدمت؟! قال عليه الصلاة والسلام: عرض علي عنقود من عناقيد الجنة، ولو أخذته لأكلته ما بقيت الدنيا، ثم رفع العنقود.
قالوا: ورأيناك تأخرت؟! قال: رأيت عمرو بن لحي الخزاعي الذي سيب السوائب يجر قصبه في النار.
وفي لفظ: عرضت لي النار كعرض هذا الحائط، وعرضت لي الجنة فلم أرَ كالخير والشر اليوم} فما أحسن الخير وما أشد الشر! هذا مناسبة الحديث.
فهو صلى الله عليه وسلم لم يجر إزاره متعمداً، وإنما للخوف وللخشية نسي من نفسه صلى الله عليه وسلم، فارتخى الإزار فقام يزحف إلى المسجد ليصلي بالناس.
إذاً: فالرسول لم يجر الإزار متعمداً، وليس فيه دليل لمن جر ثوبه أو إزاره، بل هذا حدث على خلاف المراد والمقصود.