ضرورة مطابقة الفعل للقول

{أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] هنا مسائل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد أن لامهم.

أولاً: أنتم تأمرون ولو لم تأمروا لكانت المسألة سهلة، تجد إنساناً فاسقاً يستحي على نفسه.

قيل لأحد السلاطين وهو نور الدين محمود زنكي بطل من الأبطال كردي ليس عربي بعض الناس الآن يقول: ما يصلح إلا العربي! لكنه ولي من أولياء الله عز وجل، ترجم له ابن كثير يقول: سقى الله عظامه شآبيب الرضوان، كان مخلصاً لله، ذكروا عنه أنه سجد ذات مرة -من ضمن تضرعه وذلته لله وخشيته من عذاب الله ومقته لنفسه- يقول: اللهم اغفر لعبدك الكلب محمود -وهو يقصد نفسه-.

قيل له: لماذا لا تعظ الناس؟ قال: أنا مثلي يعظ الناس! كم تساوي هذه الكلمة؟! ولذلك قد يأتي من الحمقى رجل إذا وعظته يقول: أتقول هذا الكلام لمثلي أما تستحي أن تعظني، أنا أحتاج إلى دعوة.

حتى ذكروا أن الإمام أحمد قام أمام الناس فوصف الجنة والنار، فقال: يا أيها الناس! والله لا يضمن أحد لنفسه الجنة حتى أنا لا أضمن لي الجنة، أنت أنت يا إمام ماذا فعلت؟ هذه الكلمة كانت إداً.

ذكر أهل السير في ترجمة عيسى عليه السلام وذكرها ابن كثير في مواطن: أن رجلاً من بني إسرائيل كان عابداً، فأخذ فاسقاً بيده فذهب به إلى بيت المقدس، فلما اقتربوا من بيت المقدس دخل العابد ووقف هذا الفاسق، قال: ادخل، قال: أنا مثلي يدخل بيت المقدس أألطخه بسيئاتي وبمعاصيّ! فأوحى الله إلى عيسى قل لذاك الفاسق: كلمته هذه عادلت سبعين سنة من عبادة هذا العابد.

لكن لا يعني ذلك أن الإنسان يقول: ما سمعنا بمثل هذا الشيء السهل، إذاً: نسمع الغناء، ونفعل الزنا والربا والفواحش -نعوذ بالله- ونقول: نحن نلطخ المجتمع بمعاصينا وذنوبنا! لا والله إن هذا هو الفحش والبعد عن الله، لكن وصل هذا العبد إلى تلك المكانة بما وقر في قلبه من الذل لله تعالى.

وفي الحديث الصحيح: {أن عابداً أتاه رجل مسرف كان يقترف المعاصي، فقال له العابد: اتق الله واستح منه، فقال: دعني أنا وربي لعل الله أن يرحمني، فلقيه فقال له: اتق الله، عد إليه ولا تعصيه، قال: دعني وربي لعل الله أن يرحمني، قال: والله لا يغفر الله لك! فقال الله عز وجل: من الذي يتألى عليَّ؟ من الذي حلف على الله؟ أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهذا المجرم -أو هذا الفاسق- وأحبطت عمل هذا العابد} فليستأنف العمل من الآن، أي: سجلاته شطب عليه في لحظة وذاك غفر له، ويبدأ ذاك من الصفر وهذا من الصفر، ذاك مقبول، وهذا مطرود بكلمة زهو وعجب على الله بها، ولذلك قالوا: أنين المذنبين خير من تسبيح المقربين، فهو مذنب ولكنه يئن إلى الله ويرجع إليه، أما مذنب يذنب ولا يزال في الفحش، ويقول: نحن مذنبون مقصرون فهذا من المخادعة أما إنسان كان له تاريخ أسود وعاد إلى الله فهذا من الأقربين إلى الله، ولذلك تجد ذلة المعصية معه دائماً تستصحبه، حتى يلقى الله وهو من أحسن الناس.

قال سعيد بن جبير كما ذكر عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد: رب حسنة أدخلت صاحبها النار، ورب سيئة أدخلت صاحبها الجنة، قالوا: بماذا؟

قال: عاص عمل سيئة فلا يزال يبكي منها ويندم عليها حتى دخل الجنة، ورجل عمل طاعة فلا يزال يدل بها ويتكبر ويفتخر حتى دخل النار.

ولذلك عند الطبراني والبزار بسند فيه كلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن العالم الذي ينفع الناس ولا ينفع نفسه كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها} ولذلك ما هي الفائدة أن ينجو الناس وتهلك أنت؟

وما الفائدة أن يستفيد الناس ولا تستفيد أنت؟

قال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] قالوا: هذا ينطبق على طلبة العلم الذين يدرسون إلا أن يبلغوا هذا العلم الذي بين أيديهم.

وطلبة العلم يؤتون من ثلاثة مداخل:

المدخل الأول: الكتمان نعوذ بالله من الكتمان، فإنك قد تجد طالب علم يكتم ما عنده: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159] قد تجد عالماً يحفظ عشرين متناً، وقد تسمع من طلبة علم، قالوا: فلان يحفظ المتون كلها لكن في بيته، وحفظ القرآن والصحيحين والسنن والمعاجم والمسانيد، فإذا أتاه طلبة العلم يريدون معلومة منه، تشفعوا وتوسلوا، ودخلوا وخرجوا، وطرقوا الأبواب، وحاولوا أن يخرج فلا يخرج، فإذا أعطاهم وجهه مرة؛ أعطاهم الكلام كأنه يزنه في ميزان الذهب، وقته ضيق لا يستطيع أن يبذله، يقول: ليس عندي وقت، لماذا؟ قال: الوقت حرج، ولذلك ما فائدة العلم:

يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كف شددتا

ولذلك أكثر ما منيت به الأمة الإسلامية اليوم يوم جلس بعض العلماء في الصوامع العادية، فتجد العالم يجلس في الصومعة ولا ينزل للناس، فيترك الشباب وحالهم إما يستقيمون أو يضلون أو يهتدون أو يمرقون وينظِّرون لأنفسهم، وأصبح الشباب هم المفتون والقادة والمنظرون، فلذلك أتى في المسيرة اعوجاج لأن العلماء ما قادوا هذه المسيرة، وهم الذين ينبغي أن يقودوها.

المدخل الثاني: العجب والكبر على الناس؛ وقد يصاب بها بعض أهل العلم، نعوذ بالله من ذلك.

المدخل الثالث: الحسد وهو لا يقع كثيراً نسأل الله العافية والسلامة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015