وقف الحجاج بن يوسف الثقفي يوم الجمعة يقول: لا إله إلا الله كم من مستقيم يدعو الناس للتقوى ولا يتقي، ماذا أعددتم للقبر! لا إله إلا الله ما أضيقه!
ولا إله إلا الله ما أظلمه!
ولا إله إلا الله ما أوحشه!
فالناس ما بكوا لأن الحجاج هو المتكلم، فهو الذي قتل مائة ألف وقتل العلماء، وأخاف الناس، فأخبر الحسن بهذه الموعظة فقال: سبحان الله! يلبس لباس الفساق، ويعظ وعظ الأخيار، ويضرب رقاب الناس ويقرأ القرآن على لخم وجذام، هذا ما كان له قبول.
لكن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الزاهد.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الشجر النضر
عمر بن عبد العزيز يقف في الثامنة والثلاثين من عمره على المنبر في أول جمعة قامها بعد الخلافة، فيأتي وينظر إلى الأمة فيبكي ويجلس ثم يقوم يتكلم فلا يستطيع أن يتكلم، قال: يا أيها الناس بيعتكم في أعناقكم، الله حملني الشيخ الكبير والعجوز والأرملة والمسكين، ماذا أقول لربي يوم القيامة؟ ثم بكى.
قال رجاء بن حيوة أحد الوزراء عنده، والله لقد نظرت إلى الجدران هل تبكي معنا أم لا، قال: ما بقي أحد، بكى الناس كلهم، فيرى هل تبكي الجدران؟ لأنه صادق وعلم الله صدقه، ولا بأس أن نقف معه قليلاً.
لما تولى الخلافة أتى إلى عبده، وكلنا عبيد الله لكنه مولى أسمر دائماً يرابط الخلفاء، ومعه سيف طويل للطوارئ، وأي إنسان يعترض في الطريق، يضرب رأسه فإذا هو قسمين رأسه في جهة وجثته في جهة.
كان مزاحم دائماً مع الخلفاء، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أخذه عمر بينه وبينه، قال: أحببتك لاثنتين، قال: ما هي؟ قال: رأيتك وقت الضحى ونحن في سفر لا يراك إلا الله خلوت بنفسك وراء الجبل فركعت ركعتين.
انظروا إلى المواصفات عند الخليفة عمر بن عبد العزيز لم يقل: أنت من أسرة فلان وأنت تحمل مؤهلاً، قال له: خلوت وراء جبل وصليت ركعتين في مكان لا يراك فيه إلا الله.
المسألة الثانية: رأيت مصحفك معك دائماً.
من علامة الخير أن يكون الرجل مصحفه في جيبه يجلس خمس دقائق في مكتبه يفتح المصحف يتصل بالواحد الأحد، أتظن المنافق يحب القرآن؟! أتظن أن المنافق دائماً مصحفه معه؟! لا.
بل والله إنه يوجد من يقرأ عشرات الجرائد من الصحف والإعلانات، وإعلانات شركات الإسمنت، ودرجة الحرارة، والصيدليات المناوبة، والضائعين والضائعات، ولكن لا يقرأ ولو صفحة في اليوم من القرآن، كيف ترجو له النجاة! كيف تريد له نوراً!
ولذلك يقول: لأجل هاتين الاثنتين اخترتك وزيراً معي.
يا مزاحم: إذا رأيتني عدلت عن الصراط المستقيم؛ فخذني بتلابيب ثوبي وقل لي: اتق الله يا عمر!
ولما تولى الخلافة في أول يوم، بعد سليمان، قال للحاشية الأولى: أنتم معفيون لا أريدكم أبداً إلى يوم القيامة، سبحان الله يا عمر كنا مقربين من عبد الملك والوليد وسليمان! قال: هذا هو الأمر، قالوا: من يجلس معك؟ قال: يجلس معي فلان وفلان وفلان وعد سبعة واختار مطرف بن عبد الله بن الشخير، ورجاء بن حيوة المحدث الكبير، واشترط على هؤلاء السبعة العلماء ثلاثة شروط هي:
الشرط الأول: ألا يُغْتَاب أحد من المسلمين أبداً.
الشرط الثاني: ألا يمدح في المجلس.
الشرط الثالث: ألا تذكر الدنيا في المجلس.
ويبدأ المجلس بعد صلاة العشاء كأن بين أيديهم جنازة.
عمر نوعٌ آخر من الناس، ولذلك هدى الله به الأمة ووجهها إلى المسار الصحيح، فكان إذا تكلم؛ كان لكلامه وقع في القلوب حتى يكاد يرجف بالقلوب.