أما العنصر الرابع: فهو أجر من أحسن عمله، قال عليه الصلاة والسلام كما عند البيهقي بسند حسن من حديث كليب وعائشة: {إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} ما أحسن هذا الحديث! وهو يدخل في كل جزئية من جزئيات العمل، وفي لفظ: {إن الله يحب العامل إذا أحسن} هذان لفظان صحيحان، وهو مقبول على كل حال.
والإتقان عند أهل العلم أن تؤدي العمل على أكمل وجه، الإتقان في التعليم: أن تعلم تعليماً يقبله الله عز وجل، ويستفيد منه المسلمون، وتلقى به الله عز وجل وأنت صادق.
الإتقان في التجارة، والوظيفة، والمنصب، والمتجر، والمزرعة، فالله يحب من العبد أن يتقن العلم، أما إذا قدمت العلم معوجاً في الوقت، ومعوجاً في الأداء، ومعوجاً في الحسن؛ فلن يقبله الله عز وجل؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: إمام عادل}.
وكل راع استرعاه الله رعية فعدل بينهم فهو من الأجناس الذين يظلهم الله عز وجل يوم يشتد الكرب على النفوس، وتدنو الشمس من الرءوس، ولا حكم إلا الله، فينادي الله عز وجل أين ولاة الأمر العدول؟ فيقوم المسئولون، فيظلهم الله في ظل العرش؛ لأنهم صدقوا مع الله الواحد الأحد، ولذلك يقول أهل العلم: نرجو أن يكون عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الراشدين؛ لأنه من أئمة العدل، ومن الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه في مسئوليته وفي ولايته رضي الله عنه وأرضاه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند مسلم في الصحيح أنه قال: {إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في عملهم وأهليهم وما ولوا}:
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
والمقسط: هو العادل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َ} [الحجرات:9] أي: العدول.
{على منابر من نور} وإذا كانت منابر، وكانت من نور، وكانت في الجنة، وكانت على يمين الرحمن، فماذا تكون، لا إله إلا الله من نعيم ما أحسنه! ولا إله إلا الله من مصدر ما أجمله! ولكن من يعمل لهذه المنابر، {إن المقسطين على منابر من نور عند الله عز وجل الذين يعدلون في عملهم وأهليهم وما ولوا} قال ابن تيمية: حتى العدل بين التلاميذ في التعليم.
وأقول: حتى العدل بين الطفلين فهو من العدل، حتى القيام بالمسئولية في البيت، والعدل بين الأطفال، والعدل في التصحيح بين التلاميذ والطلاب، إذا فعلت ذلك أجلسك الله على منبر من نور على يمينه في الجنة، وما أحسن المجلس وما أحسن المقام.
قالت امرأة فرعون آسية: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] قال ابن القيم: انظر إليها سألت الجار قبل الدار، فسؤال الجار قبل الدار أحق للعبد أن يسأله من الواحد الغفار.
أستطرد في الجار: التهامي وهو شاعر عربي فصيح، توفي ابنه فرثاه بمرثية تبكي العيون، يقول من ضمن أبياتها:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتارِ
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: أنا بقيت للحساد في الدنيا، وهو ذهب إلى جوار الله.
قال ابن كثير: توفي أبو الحسن التهامي -هذا الشاعر- فرئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا، قال: بقولي في القصيدة المشهورة:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
وهي من أحسن ما قيل، والمقصود هنا أن العدول والمؤتمنون والقائمون بأعمالهم على منابر من نور.