قالت الحادية عشرة: {زوجي أبو زرع وما أبو زرع أنس من حلي أذني} اسمه هو أبو زرع ثم تقول وما أبو زرع؟ وهذه الجملة للتعظيم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3].
{الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 2].
{أنس من حلي أذني} أي: أحسن عندي من حلي الأذن بالأنس واللطف والسكينة، والقرب والهدوء والليونة، وعند البخاري في رواية: {وأملأ من شحم عضديَّ} تقول: إنه عندي أحسن من الشحم الذي في عضدي لما بيني وبينه من قرب ومودة ورحمة.
وبجحني فبجحت إليَّ نفسي، تقول: أعطاني من الدنيا حتى افتخرت على زميلاتي وأخواتي، وتعاظمت إلي نفسي، وهذا ليس محموداً على الإطلاق، وسوف يأتي تفصيله، تقول: وجدني في أهل غُنيمة بشقٍ أي: أن أهلها أصحاب غنم في بادية فقيرة، فجعلني في أهل صهيلٍ وأطيطٍ، ودائسٍ ومُنَقٍّ، أي: فتحولت إليه فأصبح عندي خيل لأن عنده خيلاً وعنده أطيطاً أي: إبل تئط أطيطاً، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موطن أربع أصابع إلا وملكٌ راكعٌ أو ساجد} وفي حديثٍ يروى عنه في العرش عليه الصلاة والسلام: {وإنه ليئط به أطيط الرحل براكبه} والأطيط صوت القتب، وصوت المحمل على الجمل، الخشب الذي تسمع له صريف.
تقول: عنده إبل وخيل وعطاء.
وينبغي للمرأة ألا تتزوج الرجل لماله، بل تتزوجه لدينه، فالمال وحده لا ينفعها، ولو كان عنده مال قارون، وكثير من الفتيات تزوجن رجالاً ذوي أموال، ولكن أهل الأموال هؤلاء كانوا فجرة، وأهل ربا وخيانة مع الله، وأهل غدر مع الواحد الأحد، فأصبحت حياتهم غدراً وزوراً وبعداً عن الله.
وهناك نساء تزوجن فقراء، ولكن هؤلاء الفقراء عرفوا الله أهل صيام وصلاة، وعبادة وتقوى لله، فسعدن سعادة ما بعدها سعادة، فلا تعد المال شيئاً فهو لا يساوي التراب إلا بتقوى الله.
قالت: {ودائس ومنقٍ} تعني: أن له دجاجاً، لكن استبعدوا ذلك فذكره الحافظ في الفتح، وقيل: إنه كثير البر حتى ينقى عنده بالمناخل.
{فعنده أقول فلا أقبح} تقول: أتكلم وألقي ما في ذهني فلا يقبحني ولا يقاطعني، ويستمع إلي، وهي خصلة جيدة في الرجال، ويجب أن يعيها المسلم فيسمع لصوت المرأة، والإسلام هو الذي عرف قدر المرأة وسمع صوتها بعد أن قتلت الجاهلية صوتها المرأة ووأدتها، ولم تعترف بها، فجاء الإسلام فكرمها.
{وأرقد فأتصبح} تتشرف تقول: الصباح أرقد في الصباح حتى الضحى، أي أنها تسهر وتلهو ثم تنام متأخرة فلا تضطر للقيام بل تظل نائمة حتى وقت الضحى، ولو عرفت التسبيح حتى طلوع الشمس وقراءة القرآن كان أحسن، لكن تصف أنها مرتاحة، وأنها تنام على ما تريد، وتقوم متى أرادت.
وأشرب فأتقمح أي: أشرب فأزيد من الشرب، فهي تشرب من اللبن، وتشرب من العسل، وتشرب من السمن لا يقول: كفى، إنما تشرب جهدها.
ثم تصف أم أبي زرع وابنه وزوجه الأخرى وبنته تقول: {أم أبي زرع p> وما أم أبي زرع؟ عكومها رداح} تقول: كثيرة النعم، حتى أمه عندها غرف نوم، وعندها فرش، وعندها خيرٌ كثير قالت: {وبيتها فساح} تقول: حتى بيت أم أبي زرع واسع.
{ابن أبي زرع، وما ابن أبي زرع مضجعه كمسلِّ شطبة} تقول: مثل السيف، لأن العرب تفتخر بمن يختصر في نومه وفي أكله، تقول: ينام على أدنى شيء، ينام مرة عند الباب، ويدخل مرة ينام في أي مكان؛ لأن ذلك يدل على الشجاعة، وعلى القوة، والعصامية، كان بعض العرب ينام مع الأسود، وبعضهم ينام مع الغنم وفي مسارح الإبل من شجاعته ليحميها، قالت: {وتشبعه ذراع الجفرة} تقول: أدنى شيء يشبعه، فلا يأكل الطعام علينا، والعرب تفتخر بذلك يقول عروة:
إني امرؤ عافٍ إنائي شركة وأنت امرؤ عافٍ إناؤك واحد
أقسم جسمي في جسومٍ كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد
{بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها،} تقول: تطيع أباها وأمها، يعني أنها بارة {وملء كسائها} تقول: إنها ممتلئة الجسم مع اعتدال الخلقة.
{وصغر ردائها} أي أنها جيدة الملبس، تزين أهلها بأخلاقها الشريفة ووقارها {وغيظ جارتها} أي أن جارتها أو جاراتها يحسدنها، قال:
حسداً حملنه من أجلها وقديماً كان في الناس الحسد
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وغيظاً إنه لدميمُ
قالت: {جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا} أي: أنها لا تنقل الخبر من البيت، وهذا فيه مدحٌ لأهل البيت ألا ينقلوا أخبارهم، وعلى المسلم ألا ينقل خبر أهله الخاص في المجالس، وعلى المسلمة ألا تنقل خبر زوجها الخاص في المجالس، فإن هذا مذموم، وقد استنكره عليه الصلاة والسلام، وهو من المجاهرة.
{ولا تنقث ميرتنا تنقيثا} أي: كذلك لا تصرف مالنا ولا تضيعه {ولا تملأ بيتنا تعثيثا أي: أنها مرتبة للبيت، والعرب تمدح الترتيب والإسلام جاء به.
-وبالمناسبة- أنصح النساء لأن هذا الخبر لهن-: أن يتقين الله في ترتيب البيوت، وفي التزام النظام، لأن من صفات اليهود أنهم أوسخ الناس أفنية، فالمرأة العاقلة تجعل للملابس مكاناً، وللمكتبة مكاناً، وللمطبخ مكاناً، ولكل شيء مكاناً، أما أن تكون الملاعق بين الكتب، والسكاكين بين البطانيات، والصحون في المجلس، وحالة لا يعلمها إلا الله فهذا ينبئ بأنه أصاب البيت رجة أو زلزال، وهذا ليس بوارد في الإسلام.
قالت: {خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فمر بامرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها} الآن انتهت، تقول: وجد امرأة غيري فطلقني ونكح تلك.
{فنكحت بعده رجلاً سرياً -أي رجلاً غنياً- ركب شرياً- عنده فرس جيد- وأخذ خطياً -وبيده رمح- وأراح علينا نعماً سرياً -كثير الأنعام- وأعطاني من كل رائحة زوجاً -أي من كل الإبل والبقر، والغنم- فقال: كلي أم زرع وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه، بلغ أصغر آنية أبي زرع} تقول: كل شيء أعطانيه لا يملأ صحناً من أصغر صحون ذاك، ويتمدح هذا الثاني ويقول: افعلي ماشئت بهذا المال فقال النبي عليه الصلاة والسلام -خاتماً للحديث وهو يتبسم: {يا عائشة! كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع، إلا أن أبا زرع طلق وأنا لا أطلق} حديثٌ صحيح رواه الطبراني عن عائشة ورواه الترمذي في الشمائل موقوفاً إلا قوله: {كنت كـ أبي زرع} فرفعاه وقالوا: وهو يؤيد رفع الحديث كله، ورواه البخاري في النكاح ومسلم في الفضائل.