ولكن تتدخل عناية الله، اسمعوا إلى القصة وإلى العرض، وإلى الجمال والروعة في عرض القصة! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم: {طسم} [القصص:1] ومعنى (طسم) أي: هذا القرآن المعجز الذي ينفذ إلى القلوب، ويداخل الأرواح، هو من جنس هذه الأحرف المقطعات وحتى يتضح هذا المعنى فنضرب مثلاً: التراب الذي ندوسه بأقدامنا ونلعب به ونبني به السقوف والمنازل والأسطحة: هو الذي خلقنا منه، فالله خلقنا من هذا التراب ونحن لا نستطيع أن نخلق منه بشراًً، وهذا الكلام الذي نتداول به ونتمازح به هو من جنس هذا الكلام لكن الله جعل منه قرآناً.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} القصص:2 - 4] لقد علا وتجاوز حده وتكبر وما كان ينبغي له أن يتكبر، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4] إلى أن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعدها بأربع آيات: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] يا الله! {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ} [القصص:7] كان المنطق أن يقال فاحفظيه أو فأمسكيه أو فخبئيه ودسيه ولكن (فَأَلْقِيهِ).
والإنسان إذا خاف على شيء، حفظه والتزمه ومسكه وخبأه ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يسير قصة مكشوفة، وعملية سافرة على فرعون، يحاربه -كما يقال: كذا على المكشوف- بطفل يأتي إليه مباشرة، ثم يكون هذا الطفل هو النقمة والانقلاب، وهو نهاية هذا الملك الظالم الغاشم في الأرض.
فقال الله لها: فألقيه، أي: اتركيه لتتولاه رعاية الله، ودعيه لتتكفله عناية الله، وتخلي عنه فإن الله هو الحافظ عز وجل، من الذي يحفظ الطيور وهي لا تملك ضراً ولا نفعاً؟! من الذي يشبعها؟! من الذي يؤيها؟! من الذي يحفظ السوارح في البراري؟! من الذي يحفظ الوالهين والضائعين واليتامى؟! إنه الله عز وجل.
فألقته أمه تحت رعاية الله وعنايته: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) والوحي إنما يأتي من الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فوثقت بهذا الوحي ولو كان من عند غير الله ما وثقت به أبداً، لو قال لها فرعون وهو يملك القوة والجنود والحرس أن تلقيه والله ما صدقت، ولا آمنت، ولا فعلت، لكن قال الله لها: ألقيه فألقته، وانظروا إلى هذا المشهد: أم والهة حزينة تلقي طفلها في اليم ولا تدعه عند أحد من الناس، إنما تلفه وتلقيه.
في اليم: أي في الماء مباشرة ولن يغرق أبداً؛ لأن من يحفظ الله فإن الله يحفظه ومن يحفظه، الله لا يهلك أبداً.
وألقته في الماء وأخذه نهر النيل الرقراق، ليتجه به ولكن إلى أين يتجه به؟ البساتين كثيرة في مصر والحدائق غناء ولكنه سوف يترك كل الحدائق والبساتين؛ ليدخل حديقة فرعون؛ لأن نظام الصرف والري في مصر استخدم في عهد فرعون حيث يدخل ماء النيل إلى كل بستان، ولكن هذا الطفل الذي يرعاه الله يتخلل تلك البساتين ويتركها وراء ظهره ليدخل بستان فرعون، هذا المغنم وهذا الصيد الذي يريد أن يحصل عليه فرعون يدخل بستانه، ويستبشر الحرس الظلمة الغشمة بهذا الطفل الوديع الذي رأوا أنه من بني إسرائيل، فأخذوه في لفائفة وقدموه لفرعون، وصدر أمر فرعون بقتله ولكن عناية الله تتدخل مرة ثانية لتحفظ هذا الغلام.
يقول الله عز وجل: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] تأتي امرأة فرعون المؤمنة آسية فتقول: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9] وانظر إلى الخطاب! وانظر إلى عناية الله! وإلى الأسلوب! تقول لزوجها الظالم الغاشم: هذا قرت عين لي ولك، هذا غلام سوف نربيه لعله أن ينفعنا، وسوف ينفعها -إن شاء الله- ووالله، لقد نفعها موسى عليه السلام، نفعها في الدنيا بأن أسلمت على يديه ونفعها في الآخرة بأن أدخلها الجنة -بإذن الله- أليست هي التي قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]؟ بلى.
سمع فرعون هذا الكلام منها وصدَّقها وترك الطفل وتحت عناية من الله أراد الله عز وجل أن يهيئ له مرضعاً؛ لكن من ينبري لإرضاع هذا الطفل؟ إن الله وعد أم موسى أن يرد هذا الطفل إليها، تأتي المرضعات ويقدم الطفل للنساء فيأبى أن يرضع، ويأبى أن يشرب الحليب ليوفي الله وعده عز وجل، وتتدخل أخت موسى عليها السلام وعليه وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً، فتقول: هل أدلكم على من يكفله ويحفظه ويرعاه ويرضعه لكم؟
فيستبشرون، ويعاد الطفل الوديع إلى أمه فترضعه وتربيه في حنان، بل وتأخذ على الإرضاع أجرة وكأنها ليست له بأم!