ومجمل القصة -كما مر معنا- أنه مر به الجوع حتى كان يعتمد على الأرض من شدة حرارة الجوع، وربما ربط على بطنه الحجر، وفي السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق ربط على بطنه قطعة حجر، ولكن في هذه الرواية ضعف.
قال الخطابي: إنما ربط أبو هريرة الحجر على بطنه لئلا يجد حرارة الجوع.
وقيل: ليلتصق ظهره ببطنه فيستطيع أن يقوم ويتحامل على أرجله.
والجوع تعوذ منه صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة} والجوع يصيب الإنسان بدهش، وتتساقط أقدامه وعظامه فلا تستطيع أن تحمله، فيقول أبو هريرة: كنت أربط على بطني من شدة الجوع فأقوم.
هذا وهم خيرة الله، ولكن لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، كسرى وقيصر يتمتعون في الديباج ويلعبون بالذهب والفضة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا الدنيا وعلموا الإنسانية ورفعوا منائر الإسلام ما يجدون كسرة خبز من شعير.
ولذلك يقول عمر كما في صحيح البخاري في الفضائل وفي غيرها، وأورده في الإيلاء وفي أزواجه صلى الله عليه وسلم قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة، فسلمت عليه فرد علي السلام وهو مغضب حزين، فقلت: يا رسول الله! أما تسمع من عاتكة بنت زيد -يعني امرأته- قال: ماذا فعلت؟ قال: تسألني النفقة.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أضحك الله سنك -فـ عمر يريد أن يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وجده مغضباً وحزيناً، يقول: انظر إلى امرأتي، ما نجد كسرة خبز الشعير وتسألني أن أحليها بالذهب والفضة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فلما استأنس جلست عنده عليه الصلاة والسلام، فحولت نظري} لأن للرسول صلى الله عليه وسلم هيبة، نعم.
هو من أسهل الناس وأرق الناس، وأيسر الناس، ومن أشد الناس تبسماً، لكنه مع ذلك من أشدهم هيبةً وحشمةً، فكان الصحابة من أشد الناس له توقيراً، ولذلك يقول شوقي:
وإذا سعيت إلى العدا فغضنفرٌ وإذا جريت فإنك النكباء
قال: {فحولت نظري في غرفته صلى الله عليه وسلم فرأيت شيئاً من شعير معلق، ثم تربع عليه الصلاة والسلام وجلس فنظرت فإذا حصير قد أثر في جنبيه} والرسول صلى الله عليه وسلم كان رقيق البشرة، يقول أنس: {مسست كفه صلى الله عليه وسلم -وهذا في الصحيح- فوالله ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم حتى إذا صافحه الرجل تبقى أصابع الرجل مؤثرة في يده، وكان وجهه كالبدر ليلة أربعة عشر، قال: فلما جلس رأيت الحصير أثر في جنبه فدمعت عيناي فانتبه لي} وقد كان عمر رقيقاً رغم قوة قلبه وشجاعته في الإسلام كان رقيق الدمعة حتى أثر البكاء في خديه، قال: {فلما رأى الدموع في عيني تهمل على خدي قال: مالك يا عمر؟ قلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر في النعيم الذي تعلم وأنت في هذا الحال.
فالتفت إلي صلى الله عليه وسلم وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: بلى يا رسول الله} فكان عمر دائماً يتذكر هذه الكلمة قبل خلافته وفي خلافته حتى لقي الله عز وجل.
فيقول أبو هريرة: فلما أصابني ما أصابني.
وعند أحمد قال: {فوالله لقد كنت أسقط بين المنبر وبين بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع، فيأتي الناس فيقولون: جُن أبو هريرة وصرع، قال: فيأتي الرجل منهم فيبرك على صدري فيقرأ علي شيئاً من القرآن، والله ما بي شيء من المس وما أصابني إلا الجوع}.
فلما أصابه ما أصابه ليلة من الليالي صلى المغرب، وخرج قبل الناس يتصدى لهم، لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفتح على رجل منهم فيدعوه إلى بيته، وفتح الله عليهم جميعاً، فخرج أبو بكر رضي الله عنه وهو لا يدري بالسر، وإلا فهو من أكرم الناس، ولن تجد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم من أبي بكر، فإنه كالريح المرسلة، جعل أمواله كلها للإسلام، فلما خرج أبو بكر لقيه أبو هريرة وقال: يا أبا بكر! ما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وما هي تكملة هذه الآية؟ فكملها أبو بكر وذهب إلى بيته، وأبو هريرة يحفظ الآية، فذهب والتفت إليه حتى دخل بيته، ثم أتى عمر فسأله عن الآية فأخبره بالآية ثم ذهب ودخل، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يتكلم أبو هريرة لمح صلى الله عليه وسلم في وجهه، فضحك عليه الصلاة والسلام وأخذه بيده، وعلم أنه ليس السؤال مفاده على ظاهره، وإنما هناك حاجة في نفس يعقوب قضاها، فدخل معه، فلما دخل عُرض عليه شيء من لبن، فيقول أبو هريرة: ففرحت علني أصيب من هذا اللبن.
قال: اذهب إلى أولئك النفر فتعال بهم إلخ القصة، فلما أتى بهم شربوا فشرب رضي الله عنه بعدهم، ثم شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخير.