واستمر أبو هريرة على هذا الحال، وبقي ثابتاً على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحفظ ويتلقن ويبلغ وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخرج الأجيال تلو الأجيال من المسجد العامر، مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أسس على التقوى.
قال شفي الأصبحي: دخلت المدينة المنورة فسمعت لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم دوياً في الحديث، فلما دخلت وجدت أبا هريرة وسط الحلقات يحدث، فشققت الحلقات حتى بلغته فجلست عنده، فقلت: يا أبا هريرة! أسألك بالله أن تحدثني بحديث سمعته أنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينك وبينه واسطة.
قال: فبكى حتى نشغ -أي: حتى غشي عليه- ثم رفع رأسه وقال: والله لأحدثنك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه واسطة، ثم نشغ من البكاء ثم رفع رأسه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة -نعوذ بالله أن نكون منهم- أولهم: عالم علمه الله العلم وأقرأه كتابه، يستحضره الله يوم القيامة ويقول: أما علمتك العلم؟ أما فهمتك؟ فيقول: بلى يا ربي، فيقول: ماذا عملت؟ -والله أعلم وأدرى- قال: علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.
فيقول الله: كذبت، إنما تعلمت ليقال: عالم.
خذوه إلى النار.
فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ويؤتى بالجواد فيفعل به هكذا، ويؤتى بالشجاع المجاهد في سبيل الله في الظاهر فيفعل به هكذا} فذهب هذا الرجل فدخل على معاوية وهو خليفة في دمشق، وحوله الوزراء والأمراء، وعلى رأسه الجنود بالسيوف، فقال: يا معاوية! قال: نعم.
قال: أحدثك بحديث.
فحدثه بالحديث، فبكى معاوية حتى سقط من على كرسيه، ثم رفع الفراش ومرغ وجهه في التراب وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].