إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
اعلموا بارك الله فيكم أنه لا بد للعبد المسلم كل يوم من نقلة يعيشها مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكل ما أتانا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنة، لابد أن نعيش معه في حاله صلى الله عليه وسلم وفي أعماله، وفي جهاده وهجرته، وفي طعامه وشرابه، وفي قيامه وقعوده، وفي يقظته ونومه؛ لأن الله جعله أسوة لنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تفتح أبواب الجنة إلا من بابه، ومن أتى من غير طريقه فحرام عليه الجنة.
إذا علم ذلك فإن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
ومعنا هذه الليلة حديث طويل نعيش فيه مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، والذي يروي هذا الحديث هو حافظ الأمة وحامل لواء السنة أبو هريرة رضي الله عنه، يقول الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل: (باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا) ثم قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عمر بن ذر، قال حدثنا مجاهد أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: {آلله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد ببطني على الأرض من الجوع، آلله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أربط على بطني الحجر من الجوع، وإني صليت صلاة المغرب في ذات ليلة في عهده صلى الله عليه وسلم، فلما صليت خرجت في طريق الناس وهم يمرون علي -وسوف يمر عليه من هذا الطريق الصحابة من المهاجرين والأنصار- قال: فوقفت وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، والله ما أوقفني إلا الجوع، قال: فمر بي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فسألته عن آية من كتاب الله، والله الذي لا إله إلا هو ما سألته إلا ليطعمني ويشبعني في بيته، قال: فأخبرني ثم مر ولم يدعني إلى بيته، ثم مر عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله، والله الذي لا إله إلا هو ما سألته إلا ليطعمني فما فعل، ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعند البخاري من طريق مجاهد - ثم مر أبو القاسم بأبي هو وأمي، فلما رآني واقفاً قبل أن أتكلم تبسم في وجهي، وقال: يا أبا هر! حيهلاً بك.
قال: فأخذ بيدي فتبعته، فدخل بيته عليه الصلاة والسلام، فلما دخل استأذنت فأذن لي فدخلت، فقال عليه الصلاة والسلام لأهله بعد صلاة المغرب: أعندكم شيء؟
قالوا: لا.
إلا شيء من لبن.
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! وظننت أنه سوف يدفع لي هذا اللبن لأسد به رمقي من الجوع.
قال: يا أبا هر! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: انطلق إلى أهل الصفة في المسجد -وأهل الصفة قوم فقراء من الصحابة الأخيار من خيرة الصحابة، اجتمعوا في المسجد وتخلوا عن الدنيا، لا أهل معهم ولا مال ولا ولد، في النهار يحتطبون من الجبال ويبيعون، وفي الليل يتعبدون الله في مسجدهم ويستمعون ما أنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- قال: فقلت في نفسي -هكذا في رواية البخاري - قلت: يا سبحان الله! إذا دعوت أهل الصفة ثم أتوا وشربوه ماذا سوف يبلغني منه؟ أفما كان بدأ بي فأسقاني ثم أرسلني؟ قال: فما كان من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بد، قال: وأهل الصفة كانوا قوماً فقراء لا أهل لهم ولا مال ولا ولد يسكنون في المسجد، فإذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة دفعها إليهم، وإذا أتاه هدية أشركهم معه في الهدية -لأنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة- قال: انطلق إلى أهل الصفة ادعهم لي، قال: فذهبت إليهم وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم.
فقاموا وذهبوا معي، فاستأذنت لهم فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا مقاعدهم في البيت، فلما جلسوا سلمني صلى الله عليه وسلم القدح في يدي، وقال: اسقهم يا أبا هر! هو أبو هريرة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلطف معه.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من أدبي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
قال: فأخذت القدح وأخذت أسقيهم واحداً واحداً، كلما شرب أحدهم دفعت القدح إلى الآخر، فإذا شرب عدت إلى الآخر، وهكذا حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب الضيافة، وهو صاحب المنزل، وهو في آخر الضيوف- قال: فلما وصلت نظر إلي وتبسم في وجهي، وقال: يا أبا هر! بقيت أنا وأنت.
قال: قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد، فقعدت، قال: اشرب.
فشربت، ثم قال: اشرب.
فشربت، ثم قال: اشرب.
فشربت، ثم قال: اشرب في الرابعة، قلت: والله يا رسول الله! ما أجد له مسلكاً.
قال: فأخذ الإناء من يدي وفيه فضلة ثم قال: الحمد لله، ثم سمى وشرب، عليه أفضل الصلاة والسلام}.